الثلاثاء 2016/03/01
هناك شعور عام (مبرر فيما أرى) يشاكس كتابات العظمة يأخذ عليه الابتعاد عن الراهن السياسي، يعززه تأكيده في أكثر من مكان، بأنه ليس سياسياً، ويخفف من وطأته الالتقاطات السياسية الذكية والدقيقة والراهنة التي يضمّنها كتاباته.عطفاً على هذه الوجبة الغنية من الحوار التي تنشرها “مجلة الجديد” في ملف “تحرير العقل” يضطر القارئ إلى سوق بضع ملاحظات لا ترقى إلى مستوى الحوار النقدي، وتحتفظ للعظمة بمكانته ومنهجيته ووجاهة آرائه، لتكون أميل إلى تعليق سجالي حميد يبغي التعرف على المزيد.
بداية هل يمكننا أن نقول إن القارئ السوري خاصة قد لا يستطيع بسهولة تناسي قول العظمة في لقاء مع ياسين الحاج صالح في موقع الأوان (52- مايو 2007) “ما كنت حزينا لرؤية الحركة السياسية الإسلامية وهي تُعامل بشدة. بيد أن النتيجة كانت ذات وجهين. فمن جانب قررت السلطة، في الثمانينات لأسباب لا أفهمها ولا يسعني التغاضي عنها، توسيع نطاق القمع وتدمير العناصر الحاسمة في الجسم السياسي السوري، عناصر ما كانت تشكل موضوعياً تهديداً منهجياً للوضع القائم. وقد فعلت ذلك أيضاً بوحشية ضاهت ما يمكن توقعه من القوى الإسلامية: همجية قضاء استثنائي، حولت المواطنين إلى إمّعات مرتعدة، إلى أوغاد، إلى حمقى، إلى قطيع، في عالم غير سويّ ولا قانون له. وتشي تلك العمليات الانتخابية التي تدعى بيعة باحتقار عميق للمواطنين وللسياسة. أولئك المواطنون الذين يملأون أوراقاً انتخابية ويأخذون دبابيس (مشكوك بنظافتها) تزودهم الدولة بها لاستخراج دم من أصابعهم يبصمون به تلك الأوراق؛ هذا الشكل البدائي من التضحية، ما هو إلا مصادقة على كونهم أوغاداً أو خرافاً؛ خياران أحلاهما مر”.
يشكل هذا الكلام طيراً أسود تشوش أجنحته السوداء على أيّ سطور أخرى سيقولها العظمة لنا كشباب متابعين للشأن العام ومتوسّلين للمفكرين المحترمين الذين لديهم كلمة في شأن”نا” العام.
لنرى في هذا الحوار الشيق هنا، والمختلف عن الحوارات الصحافية المقتضبة الأخرى، العظمة يحلل وبدقة الأوضاع من صعود للأصولية وردود أفعال الأنظمة عليه واستخدام الأنظمة نفسها لهذه اللعبة وبعد أن يصل بالدقة والتحليل إلى الدبابيس (المشكوك بنظافتها) ليقر بأن الدولة حوّلتنا إلى مصادقين على كونناً أوغاداً أو خرافاً، وحتى بعد قيام الثورة التي لا تعتبر على أيّ حال مجرد تغير سياسي طبيعي في بلد مثل سوريا، يرى العظمة أو يقرر النظر فقط رغم إدلائه بالتغيّرات والأسباب الاقتصادية العالمية لنشوء تنظيمات التوحش أن الموضوع متعلق بالأصولية دائماً وأن المشكلة مع الإخوان المسلمين (الذين لا يفرّق بينهم وبين الجهاديين) رغم تكراره عدة مرات بوجود ظواهر التوحش في أمكنة أخرى من العالم دون وجود أيديولوجيا إسلامية يأخذ عليها أنها تقول بالاستعداد للقتل المرتبط بالتضحية والشهادة ويقارن بينها وبين (شهادات) أخرى ليقول “فإنّ ما قامت به فتاة نمور التاميل وسناء محيدلي كانت لهما أهداف محددة وعدو متعيّن، ولم تمارسا قتلاً عشوائياً وما قامتا بأعمال ضد الإنسانية جمعاء، أعمال محملة بكراهية نرجسية وحب مرضي للموت”.
إذن لنتمنّى أن نكون بعيدين عن العسف إذا ما قلنا على لسان العظمة أن شهداء نمور التاميل والشهداء كسناء محيدلي في الجنة وشهداء الإسلاميين في النار.
ينطلق العظمة دون مواربة من تلة علمانية لا تخفي نفسها في هذا السهل السياسي المنبسط للفكر العربي، رغم ما يتهم به بعض المثقفين العرب من تعال وشعبوية، ليرى الموقف الحاد المبرر طبعاً من الحركات الإسلامية التي تبغي التعاطي مع المسلمين كجيش مفترض جاهز ليتلقّفها وليحملها إلى سدة الحكم، بنفس الحدّة والإصرار النظري على العلمانية الكاملة المطلقة قبل أيّ شيء، ويزدري خطاب بعض المثقفين الذين يرون وجوب استيعاب الإسلاميين في المضمار السياسي ليشبّهه بيوتوبيا تجد الآخرين ملائكة ولا تنتبه إلى الصراع السياسي الذي يقوم على كسر العظم.
هذا الخط العام إذا أمكن وصفه بذلك يأخذنا كمتلقّين نهمين لآراء العظمة إلى التساؤل حول التصنيم العلماني على حساب ديناميات المجتمع، (دون أن نقع بناء على توصيته في الخلط بين المجتمع المدني الحقيقي والمجتمع المدني العصبوي)، ولكنّني قادر براحة ضمير بعد قراءة تحليل العظمة الاقتصادي للنظام العالمي الجديد على استبعاد الجانب التنظيمي الأيديولوجي للإخوان المسلمين أو حتى الجهاديين من حقل الدراسة دون أن أقع في فخّ جوهرانية الاقتصاد في تفسير التاريخ.
يرى العظمة ومفكرون سوريون كبار آخرون أن البداية من العلمانية الحقيقية البعيدة عن المواربة والاختفاء وراء الكلمات الباردة مثل مدنية وعقلانية، والحفاظ على ما حقّقته دول الاستقلال في القرن العشرين من منجزات التحديث، ونرى من موقعنا كطلبة متسائلين ليس إلا، أليس الأجدى أن تكون البداية لأصوات مفكرين كبار ضد تحويلنا إلى أوغاد وخراف، ومن ثم نذهب باتجاه العلمانية أو الأصولية أو الأناركية أو كل ما يمكن أن يخطر على بال أحد.
لا أنطلق، ولا ينطلق غيري على ما أعتقد، من مقولة الصفات النفسية والعامة القارة في مجتمع ما، ولا بالتصنيفات المغلقة للشرق أو الغرب، وأسعى مع الجميع إلى الابتعاد عن التبسيط والطرق السهلة، ولكن ألا تبدأ القضية بأكملها من بل من حق الحياة والكرامة أولاً (ولن أقول الحرية).
يقول العظمة وغيره من المفكرين الكبار ما قاله مالك في الخمر عن عسف الأنظمة العربية، ليعودوا إلى الأصولية أولاً وأخيراً، هذا ما لا يمكن استيعابه على الأقل بالنسبة إلينا.
“الدواعش آتون من اللامكان، أي من سياق الهوامش المضاعفة المتضافرة والمتشابكة مع ‘مكان’ آخر هو شبكات غير منظورة للبعث العراقي وأخري متبقيّة من أزمنة أخرى هي العشائر المستعيدة الروح. اللامكان بمعنى نبذ المنشأ وإعادة تشكيل الذات ثم اللامكان، أي المكان الخيالي والافتراضي (دابق، الشام، القسطنطينية، رومية في خطاب داعش)، على نحو يضارع هذه الذات الجديدة. واللامكان بمعنى الخروج عن كل الأزمنة التاريخية والخروج عليها”.
مقاربة حقيقية تتوسل توصيف هذه الظاهرة المرّيخية وإرجاعها إلى المكان (اللامكان) الذي جاءت منه، دون التوقف عند هذا الحد، بل تتقدم بشجاعة إلى توضيح المآل الذي ستذهب إليه، ليقرر محقاً “إنّ داعش ليس لديها على نحو كبير بيئة حاضنة” ثم بملاحظة تقترب خفراً من الإجحاف “بقدر ما لديها بيئة غير ممانعة وفي بعض الأحيان متواطئة”.
توضيح الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الذي يقوم به العظمة بطريقة لا يضاهيه فيها أحد، لا يعفي برأيه هذه البيئة المستقبلة للدواعش من الاتهام المبطّن في كلامه عن كونها غير ممانعة وفي بعض الأحيان متواطئة.
هل هناك محاباة للعامة، أو شعبوية يمكن أن نوصف بها إذا لم نتوافق مع اتهام صريح قد يتقاطع (في نظرنا على الأقل) مع نزعات ثقافوية متعالية نبوية علمانية تجاه بيئة عانت صدامياً وأسدياً ما عانت، لكي يسمّى استسلامها اليائس للقوة الآتية من (اللامكان) والتي تقوم على “تربية التوحش” بالتواطؤ أو اللاممانعة على الأقل.
لنصل إلى الحقيقة التي يقرّها العظمة والتي قد تتلاقى مع بعض ما تراه شريحة من المفكرين العرب الآخرين دون أن يتماهى معهم “لدينا هنا حقيقةٌ وهي أنّ الديمقراطية الليبرالية ليست حقاً تعويذة تحتوي حلاً شاملاً لجميع المشاكل، ومن المرجح بقاؤها في مناطق معينة من العالم فقط”.
بالطبع ليست نبوءة سحرية ولا كلام جرايد، فالعظمة يدلل على الأسباب بدقة يحسد عليها، وببرود منهجي يحسد عليه أيضاً. أدرك ويدرك الكثيرون بأن الديموقراطية الليبرالية ليست التعويذة المبتغاة، ولا العصا السحرية بالطبع.
أما التأكيد الدقيق والهام الذي يطرحه العظمة يضع إصبعه بدقة على أساس المشكلة “دعنا نؤكد أيضاً على أن كل هذه الحركات هي كذلك مشاريع اقتصادية وأرباب عمل على نطاق واسع″.
تأكيد يجعلنا دائماً، وقد نكون مخطئين، نخفف (معه) من أهمية العامل الأيديولوجي في هذه المشاريع المتوحشة، ونصرف نظرنا في أغلب الأحيان عن البنى الفكرية التحتية التي قد تشكل مستقبلات جاهزة لمشاريع القتل المقدس باعتبارها عوامل ثانوية.
لا يقبل العظمة ونحن معه بالاستسهال والتبسيط القائم على “فشل التحديث والحداثة” ومسألة “عودة الدين” التي لا تصمد أمام النظر والتحري.
يسوق العظمة الأسباب التاريخية الاقتصادية والثقافية لنشوء التوحش الملحمي هذا، وانتقال الهامش الأصولي إلى المركز “الاقتصادات المافيوية والسياسات والاقتصادات السوداء والسياسات المفترسة للبنوك والمؤسسات المالية وبعض أجهزة الدولة، فضلاً عن الأموال الافتراضية التي يتمّ إنشاؤها وإعادة تدويرها تباعاً في ثوان معدودة، والسمات الأخرى للرأسمالية المتأخرة بعد سنة 1989 التي تحرّرت من تحديات النماذج الاشتراكية البديلة. لدينا أيضاً تشظ داخلي اجتماعي-اقتصادي وفي مستويات أخرى، لجميع المجتمعات دون استثناء، وبروز سمات العالم الثالث في أجزاء كثيرة من العالم الأول، ولدينا كذلك سياسات الهوية، بما في ذلك النزاعات الأهلية (العرقية والطائفية والدينية) التي تحلّ محلّ الأسس الأخرى لبناء الأنظمة السياسية، وغالباً في تلازم مع سياسات التشاركية القائمة على أساس المحاصصة. وينبغي على المرء ألاّ تفوته الإشارة إلى التحولات في وظائف الدولة، خصوصاً منذ 1989: أي النزعة في تقليص وظائفها التمدينية ووظائف الهيمنة، وخصخصتها لصالح بعض الجماعات في كثير من الحالات (كما هو الحال مثل سوريا)”.
ما الذي نريد أن نقوله بعد سوق هذه الأسباب الدقيقة التي تحلل بنية الاقتصاد العالمي الجديد.
يقرر ويؤكد العظمة مجدداً، ونحن معه، على أنه “لكل فاعليات هذه الجماعات أسس اقتصاديّة واضحة وأساسية”. ويضيف “إنّ هذه الآن تُمثّل ثوابت بنيوية لنظام عالميٍّ ناشئ، وتحتاج لأنْ تدرس على هذه الصورة، لا على أنها انحرافات”.
وعن الشق الثقافي يلحظ ملاحظة هامة للغاية تقول بأنهم “يستندون أيضا في الخطاب والتعبئة إلى نتائج التعددية الثقافية الأوروبية، وهي تمثل تصوراً عن الذات باعتبارها متفرّدة ومتوحدة ومستوحشة، على نحو جمعي”.
يبذل التحليل الاقتصادي لهذه الظواهر الجهد الأهم في تفسيرها بشكل يجعلنا نميل بقوة إلى اعتماد هذا التفسير والتقليل من أهمية اجتراح سيد قطب لمنهج سياسي من القرآن ومن توجّهات الإخوان المسلمين وترويجهم (بمساعدة جهات عالمية) إعلامياً لمفاهيم الصحوة والعودة وفشل الحداثة وحتى من تعثّر تجربتهم في مصر والميل إلى دنيوية هذه التنظيمات والتفريق المنهجي بينها وبين الجهاديين مع الاعتراف بسعيها للوصول إلى السلطة لفرض ما تريده فيما لا يختلف عن جميع الأحزاب الانقلابية التي سادت في القرن العشرين والتي تحتفي بالوصول إلى السلطة هدفاً أساسياً لفرض هذه الأيديولوجيا، اعتماداً على كلام العظمة نفسه في تحليل الأفكار الجهادية ومثيلاتها في العالم “وهذا ما يماثل الفرق الدينية المشاكلة للجهادية الإسلامية في كل مكان: لقد أقام تمرد تايبينغ في الصين مثلاً (1850-1864) مملكة تايبينغ المسيحانيّة السماوية على الأرض في نانجينغ، حيث مورست كل أشكال ودرجات العنف (وتم الردّ ذلك أيضاً بشكل كامل من قبل أعدائهم الصينيين وكذلك الفرنسيين والبريطانيين، على أساس العين بالعين والسن بالسن)، مما خلّف عشرين مليون قتيل. مثال آخر هو جيش الربّ في أوغاندا. إنّ التربية على التوحش جزء لا يتجزأ من إعادة التنشئة الاجتماعية للفرق الخلاصية هذه ولسيناريو الفتن والملاحم”.
كل هذا لا يبرّئ حركة الإخوان المسلمين من الأهداف البعيدة ولكنه يحصرها في إطار الأيديولوجيا التسويقية التي تختلف عن الجهادية والحركات الخلاصية الأخرى، إذا تقبل العظمة منا هذا التفريق الذي قد يبدو شكلياً بنظره. ليلقي بظلال من الشك البريء في تقرير قطعي يرى أنه لا ينبغي أن ننسى “دور المؤسسات الدولية التابعة للإخوان، بما فيها الإعلام، التي ساعدت على صعود المزاج الذي نجده في داعش”.
نرد عليه بكلام الرجل نفسه حول الإخوان والإسلاميين على العموم: ليس في هذا الأمر تفرّد للإسلام: إن قرآن العنف والحق والتقويم شأن قديم قِدَم الأديان التوحيدية، وفي رسائل وعِظات القدّيس أوغسطين بيانات بالغة الفصاحة على ذلك وحوله.
يبقى أن نشيد بالجهد النظري الهائل الذي يبذله العظمة في هذا الميدان وأن ننتظر منه بعد تقسيمه أو فرزه الخطاب السياسي الفكري السوري للمعارضة السورية بين شعبويين ومتعالين، أن نرى ملامح محددة لذلك الموقف الوسط الذي يمثله فيما بينهما، إذ يمكنني المجازفة بالقول بأنني لم أتبين ملامحه بعد.