المجلة عماد الأحمد آخر تحديث
تقدّر دار نشر "بلوتو" البريطانية الجهد البحثي الذي يقدمه الصحافي البريطاني والمحلل السياسي المعروف بِن وايت. لذلك دأبت هذه الدار على نشر كتبه تباعا بالإنكليزية اعتبارا من أول كتاب صدر له في عام 2009، وصدرت طبعته الثانية بعنوان "إسرائيل، نظام الأبارتيد: دليل المبتدئين" (بلوتو، 2014)، على طريقة الكتب الدقيقة السلسة التي تفصّل قضية محددة وتستخدم الأرقام والخرائط والأدلة، وتحاول الإجابة عن أهم الأسئلة الشائعة لدى القارئ الغربي المتخصص وغير المتخصص.أما في كتابه التالي، "الفلسطينيون في إسرائيل: الفصل والتمييز والديمقراطية" (بلوتو، 2012) فقد أوضح بِن وايت أن ما يسميه اليمين الإسرائيلي "المشكلة الديموغرافية" هو في الحقيقة "المشكلة الديمقراطية" التي تمثّل قلب هذا الصراع. فإسرائيل لا تعرّف نفسها بوصفها دولة لمواطنيها، بل بوصفها دولة يهودية، على الرغم من العدد الكبير والمتزايد للسكان الفلسطينيين. ويؤكد وايت أن التركيز المستمر على تفضيل مجموعة عرقية دينية على أخرى، لا يمكن اعتباره في أي حال من الأحوال متوافقا مع القيم الديمقراطية، الذي سوف يقوض، ما لم يُعالج، محاولات للوصول إلى السلام الدائم.هيمنَ حل الدولتين على الكتاب الثالث لبِن وايت، "تصدعات في الجدار: ما بعد سياسة الأبارتيد في فلسطين/إسرائيل" (بلوتو، 2018)، الذي يؤكد فيه الكاتب أن حلّ الدولة الواحدة في فلسطين تطبّقه الحكومة الإسرائيلية يوميا بكل الظلم والإجحاف والعنصرية تجاه الفلسطينيين، فثمانون في المئة من الإسرائيليين لا يؤيدون هذا الحل لأنهم غير مضطرين له في طبيعة الحال.
كتب مقدمة كتاب بِن وايت، "إسرائيل، نظام الأبارتيد: دليل المبتدئين"، البروفسور جون دوغارد، المحامي والأكاديمي الشهير في مجال حقوق الإنسان من جنوب أفريقيا، وقد رأيناه أخيرا ممثلا جنوب أفريقيا في القضية المرفوعة ضد إسرائيل، التي أوضح فيها مباشرة وبصراحة في مذكرته الدفاعية موقف حكومة جنوب أفريقيا، إذ ترى "أن تصرفات إسرائيل قد تحولت إلى إبادة جماعية". وهو عضو مجلس أمناء منظمة "القانون من أجل فلسطين" التي تأسّست في 2020.
رأى دوغارد في مقدمته للكتاب أن القضية الفلسطينية تعدّ من المحرمات في معظم الأوساط الأكاديمية والسياسية في الولايات المتحدة الأميركية. وقال عن الكتاب إنه يتناول المواضيع الأساسية في الصراع: معاملة الفلسطينيين داخل إسرائيل نفسها وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولماذا يرفض الفلسطينيون فكرة "الدولة اليهودية"، وهل إسرائيل ديمقراطية، وهل لا تزال إسرائيل تحتل غزة، ومحنة اللاجئين الفلسطينيين، وتوسيع المستوطنات، والجدار العازل، ونقاط التفتيش وغيرها من المواضيع المهمة. يثني دوغارد على مقاربة بن وايت لموضوع الأبارتيد في إسرائيل ولا يطابق بينه وبين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بل يتحدّث عن أوجه الشبه الحقيقية بين النظامين، ويحدّد ملامح النسخة الإسرائيلية من نظام الأبارتيد هذا.
يعرض بِن وايت في مفتتَح "إسرائيل، نظام الأبارتيد: دليل المبتدئين" التعريف الدقيق لنظام الأبارتيد، مستعينا بالاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها، إذ ينطبق هذا التعريف القانوني على "الأفعال اللاإنسانية... المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية ما من البشر على أية فئة عنصرية أخرى من البشر واضطهادها إياها بصورة منهجية". ثم يفصّل وايت العلاقة الدافئة بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ولا يرى أنهما متطابقان تماما، بل هناك الكثير من التشابهات وبعض الاختلافات بين النظامين، لكن المقارنة بينهما مفيدة للغاية لفضح النظام السياسي الإسرائيلي، الذي يقوم على العنصرية البنيوية والفصل العنصري والتمييز والهيمنة، ولا بد للمجتمع الدولي، وفق وايت، أن يتعامل مع إسرائيل من هذا المنطلق.
النكبة الفلسطينية 1948
يبدأ بن وايت الجزء الأول من الكتاب الذي عنونه "استقلال إسرائيل والنكبة الفلسطينية"، باقتباس للمؤرخ الإسرائيلي بيني موريس يقول فيه: "كان بن غوريون على حق... فلولا اقتلاع الفلسطينيين، لم تكن لتنشأ هنا دولة يهودية". درس وايت في هذا الجزء الفكرة المزعومة حول الأرض التي كانت بلا شعب، ثم حلل عقلية المؤسسين العنصرية منذ حاييم وايزمان الذي قال بصراحة ووقاحة وعنصرية: "هناك فرق جوهري في الجودة بين اليهودي وبين السكان الأصليين". وانتقل إلى خطة جوزيف فايتز الذي أعلن في أربعينات القرن الماضي بوضوح في اجتماعات "لجنة تهجير السكان" أن الهدف "إخلاء الأراضي التي يسيطر عليها العرب ويزرعونها حاليا ومنحها للسكان اليهود". لخّص بِن وايت ببراعة وعمق مأساة النكبة الفلسطينية التي تدعى استقلال إسرائيل، وتحدث عن المذابح والتهجير وقتل المزارعين والحصادين في سرد غني يغطي بالأرقام والتواريخ كل هذه الحوادث خلال مراحل الاحتلال المختلفة. وأكد أن أهم أسباب ازدهار الأبارتيد في إسرائيل، عدم قدرتها، على الرغم من كل هذا وذاك، وبعد كل الحروب الشاملة والصغيرة، على "تطهير" الأرض من الفلسطينيين تماما.
يتعمّق الجزء الثاني من الكتاب في محاولة فهم كيفية الحفاظ على نظام الأبارتيد الإسرائيلي، من الناحية القانونية والعملية، على مدى العقود الماضية، وما يمثله هذا النظام وآثاره على الحياة اليومية للفلسطينيين داخل إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. إسرائيل، كما يرى بِن وايت، دولة لبعض مواطنيها فقط، تتباهى بالديمقراطية "اليهودية" وحسب، المصطلح الذي يحمل تناقضا بارزا، حيث لا تقيم لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات فيها أي وزن. ويحدّد جهاز الأمن (الشاباك) دوره في "إحباط نشاط أي مجموعة أو فرد يسعى إلى الإضرار بالطابع اليهودي والديمقراطي لدولة إسرائيل". لذلك يسأل بِن وايت مع الكثير من المناصرين للقضية الفلسطينية والكثير من الأكاديميين: ما الذي يمكن أن يخيف إسرائيل في دستور يقوم على حقوق الإنسان، ويجيب مع كل الخبراء وأصحاب الضمير: إنها العدالة. يفصّل وايت قضايا الدمج والإقصاء والتمييز التي تعتبر خبزا يوميا للفلسطينيين، ويورد رأي الكاتب يشعياهو بن بورات في صحيفة "يديعوت أحرونوت" اليمينية في السبعينات، الذي أُخذ مسلسل "الجاسوس" (2019) عن كتابه لاحقا، "الحقيقة الأكيدة هي أنه لا يوجد استيطان صهيوني ولا توجد دولة يهودية دون تهجير العرب ودون مصادرة الأراضي وتسييجها". ويدلل وايت على حيلة تغطية نظام الأبارتيد في القوانين الإسرائيلية عبر مستويين: الأول من خلال بعض المنظمات الصهيونية الكبيرة وأهمها: الصندوق القومي اليهودي، المنظمة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية، من جهة. أما المستوى الثاني فطريقة "دمج هذه المنظمات والمؤسسات في صلب قوانين دولة إسرائيل" وإعطاء أفضلية لهذه المنظمات على الدولة نفسها.
ينتقل وايت هنا إلى دراسة فكرة أن تكون فلسطينيا في الدولة اليهودية هذه، حيث تمثّل تصاريح السفر والتنقل، وحظر التجول والاعتقالات السياسية، السمات الأساسية المميزة للنظام الذي وضع في مقدمة أهدافه إعاقة النمو الطبيعي للمجتمع العربي، ومنعه من تنمية وعي سياسي مستقل، والحفاظ على المجتمع في حالة متشظية.
ما الذي يمكننا أن نفعله مع الفلسطينيين لمقاومة هذا النظام القائم على الفصل العنصري؟ هذا هو السؤال الذي يخيّم على الجزء الثالث من الكتاب الذي جاء بعنوان "نحو الدمج والسلام، مقاومة الأبارتيد الإسرائيلي". يشرع بن وايت في تحليلات واقتراحات تشمل أولا المقاومة على الأرض، ويتحدث بالتفصيل عن عمل منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية مثل منظمة "عدالة- المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية"، وجمعية الدفاع عن حقوق المهجرين داخليا (أدريد) في إسرائيل، ومنظمة "بديل" في رام الله.
ويضيف إلى هذه المنظمات الفلسطينية منظمات إسرائيلية مدنية مثل "اللجنة الإسرائيلية لمناهضة هدم البيوت" التي أنشأها الانثروبولوجي الإسرائيلي جيف هيلبر، وتعمل على إعادة بناء منازل الفلسطينيين المهدمة وتسوّق لحملات محلية ودولية تدعو لاحترام حقوق الفلسطينيين. وجمعية ذاكرات (Zochrot) التي تدعو إلى الاعتراف بالغبن الذي وقع على الفلسطينيين وإدخال مفهوم النكبة في الثقافة العبرية.
ويدعو وايت إلى التضامن الدولي مع الفلسطينيين، وإلى دعم حركة المقاطعة (BDS) ودعم المنظمات الفلسطينية والإسرائيلية التي تقاوم الأبارتيد، والسعي لتحقيق مستقبل مختلف لفلسطين من خلال حقوق الإنسان والكرامة والعدالة. وقد ظهر في الفكر الغربي السائد اليوم نقد كبير للهوية اليهودية لدولة إسرائيل، والتشكيك في حل الدولتين، والسعي إلى الديمقراطية، وتفكيك النزعة الإثنوقراطية، وإعادة تصور حق تقرير المصير.
وإذا كان الجزءان الأول والثاني من الكتاب يتحدّثان بالتفصيل عن النكبة وتأسيس الدولة ونظام الفصل العنصري ودمجه البنيوي في البنى القانونية والتشريعية للدولة، ودور المجتمع الفلسطيني ومنظماته والمجتمع الإسرائيلي نفسه، ودور المجتمع الدولي والرأي العام الغربي في تفكيك هذا الأبارتيد الظالم، في سرد تاريخي موثق وأكاديمي، فإن بِن وايت يذهب في الجزء الأخير من الكتاب إلى الأسئلة الشائعة منذ النكبة حتى العقدين الأول والثاني في الألفية، التي تُسأل مرارا (حتى اليوم في العدوان على غزة) ويحاول الإجابة عنها باختصار، وبمنطقية موجهة بالطبع إلى القارئ الغربي، الذي نتحاور معه بأنفسنا اليوم، وتُرهقنا أسئلتُه التي تبدو سخيفة وأقرب إلى الجهل بواقع الحال.
من أول هذه الأسئلة موضوع استهداف إسرائيل بالنقد واعتبار هذا النقد معاداة للسامية، لذلك يقارن بِن وايت بين مطالب الفلسطينيين ومطالب التبتيين، ويسأل لماذا لا يعتبر أحد مطالب هؤلاء استهدافا للصين. وعن شيطنة إسرائيل وإنكار حقها في الوجود واعتبار هذا أيضا معاداة للسامية، يقول وايت إن حق إسرائيل في أن تكون دولة يهودية يعني قبول الفلسطينيين باستمرار تجريدهم من ممتلكاتهم ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، ولا يرى كيف يمكن لهذا أن يشكل وصفة حقيقية للسلام. أما عن سؤال حق اليهود في الحصول على دولة خاصة بهم كما هو حق الإنكليز والفرنسيين في دولهم، وحق باكستان والمملكة العربية السعودية، فيجيب وايت أن هذه الدول لجميع مواطنيها ولا تدعي أي منها أنها الممثل العالمي الوحيد للدين ولا تمنح الجنسية للأشخاص بسبب دينهم دون النظر إلى مكان الميلاد أو الإقامة، كما أن طرحَ السؤال وكأنه سؤال افتراضي، عبارة عن تضليل بيّن، لأن دولة إسرائيل قد قامت بالفعل كدولة لليهود في جميع أنحاء العالم، وعلى حساب الفلسطينيين. وعن سؤال إدانة الكراهية والعنصرية الفلسطينية أيضا، يقول وايت إن وجود بعض المتعصبين لا يلغي أن التفوق العرقي والديني منصوص عليه في القانون الإسرائيلي، ويعبّر عن نفسه بوضوح تام في كل مرة تدمر فيها جرافة إسرائيلية بيتا فلسطينيا.
السؤال الذهبي، الذي لم يعد سائدا هذه الأيام مع تطور وسائل الاتصال كما كان من قبل حتى التسعينات في المجتمع الغربي، أليست إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط؟ يتساءل وايت عن معنى الديمقراطية التي تحرم 4ملايين إنسان من حق التصويت في الأراضي الفلسطينية وتحرم الفلسطينيين من المعاملة القانونية المتساوية داخل إسرائيل، وتحرم اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة. ثم يجيب بِن وايت عن سؤال عدم اهتمام الفلسطينيين، بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة في2005، ببناء اقتصادهم والسعي الى السلام بدلا من إمطار إسرائيل بالصواريخ، بأن هذا الانسحاب كان مجرد خطة علاقات عامة متلفزة، مع إبقاء سيطرة إسرائيل على حدود القطاع، والمجال الجوي والمياه الإقليمية، وسجل السكان، وقدرات التصدير والاستيراد، والمعابر وشن غارات برية بشكل روتيني داخل القطاع، واستخدام القوات الجوية لشن هجمات داخل القطاع والاغتيالات ومهمات التجسس والعقاب الجماعي.
اعتقدنا لفترة كعرب أنه من نافل القول الإجابة عن أسئلة كهذه، حتى تقافزت مجددا في وجوهنا على الشاشات الغربية مع العدوان على غزة، ومطالبات الإدانة الكاريكاتورية واستخدام المغالطات المنطقية، لذلك كان لا بد من دليل للمبتدئين في الغرب وفي الشرق لفهم القضية الفلسطينية برمّتها، والإجابة عن أهم التساؤلات التي تبدو حقا يراد به عدم الانخراط في المأساة والتعليق عليها بدون خسائر.
نشرت في مجلة المجلة