1.
عندما خرجْنا، نحنُ حرّاس حوريّة البحرِ،
من الأعماقِ
ووصلْنا إلى الشّاطِئ
كانتْ آخرُ سفينةٍ تجاريّةٍ
قدْ مزّقت الظلامَ
حاملةً كنوزَ النّهر.
تدفّقَ النهرُ فوقَ كُتلِ الرّملِ
وكتلِ الدّماءِ المتخثّرة المثقلة بالرمال،
لتزْدادَ سماكَتُها على مرّ القُرون.
أصبحتْ حوريةُ البحرِ
امرأةً حيّةً من لحمٍ ودم.
قالتْ حوريّةُ البحرِ لشَعبِنا المشرّد،
"لطالما كنّا صامتينَ
شهوداً أبديينَ على الظُّلمِ والمعاناة؛
أما اليوم فلدينا
لُغتُنا وقَناعَتُنا،
ألسنَتُنا وقُوَّتُنا،
عقولُنا وصوتُنا.
نحنُ، حراس حوريّة البحرِ،
نحنُ، الحراس اليقظونَ لأراضي حُوريّةِ البحر،
لدينا التاريخ إلى جانبنا اليوم.
2.
في الصباحِ الباكرِ
شيخُ الشّجرة
وقفَ بجانبِ أجمةٍ من أزهارِ اللوتَس
في مستنقعٍ قديمٍ.
وتدفّقتْ أفكارُه الوحيدةُ لتطيرَ
فوقَ حقولِ الأرُزّ.
من حقولِ الأرزّ جاءت الرّياحُ
التي تحملُ صهيلَ خيولِ الحربِ،
وصرخاتِ النّصرِ للجنودِ
والرّعبَ الذي يَصُمُّ أذنَي الشّيخِ.
جاءتِ المجاعة.
وسارَ النَاسُ حتّى الموت
ولم يعودوا بشراً.
مرّتِ الأيامُ وغاصتْ في النسيان،
وغاصتْ الليالي في بطنِ الماضي.
الشيخُ الذي يعيشُ على الشّجرةِ العجوز
فكّرَ مُجدّداً في حُقولِ الأرزّ.
بعدَ ظُهرِ أحدِ الأيّام
وجدَ شيوخُ القريةِ
رَجُلَ الشّجرةِ الشيخ
عارياً وميّتاً في حقولِ الأرزّ؛
وبجانِبِه آثارُ حوافر وأقدام.
3.
عندما بَكَتِ الطيورُ في التّلال،
كانتْ حقولُ الأرزّ بلونِ الدّمِ الطّازج،
وقلوبُ الناسِ بلونِ الدّم الطّازج.
عندما اجتاحَ الجرادُ الغابة،
جاءت السفنُ التّجاريةُ عائمةً على قلبِ النّهر. القواربُ، الملوّنةُ بدماءِ البحّارة،
غَرِقَتْ.
فقدَ الناسُ لغتَهم وأصواتَهم
يومَ بدأتِ المعركةُ على السّلطة؛
يومَ بدأتِ المعركةُ بين السّودِ والبِيض.
في اليومِ الأخيرِ من المعركةِ، صاحَ المنزلُ لاهثاً -
الماء، الماء، الماء...
دفعَ الفُرسانُ شياطينَ مميتةً
حتّى طَرَفِ السّلسلة
وربطوا طرفَ السلسلةِ الآخرَ
بحوافرِ الخيل.
انتصبتِ الشياطينُ المميتةُ في الوَحلِ،
وغاصتْ حلقاتُهم وجذورُهم عميقاً
وصاروا وحوشَ الماءِ والرجلَ الشيخَ على الشّجرة.
وبقيتْ سَلاسِلُهم متدلّيةً من أعناقِهِم.
4.
بعثرتْ رياحُ فاجون
الغبارَ على جانبَي الطريقِ والقَصَباتِ العتيقةِ من الحقول.
بالقربِ من البِركة
جلسَ شيخٌ كاشاريٌّ يُفكّرُ بعمقٍ،
كان الماضي يدورُ في حلقاتٍ في دماغِه.
سلّمنا أنفُسَنا.
كانتْ قصصٌ جديدةٌ عن الأرواحِ الميّتةِ،
تصفّي حِساباتِها معَ الزّمن الميّت.
سألنْا الشيخَ الكاشاريّ،
ما هي الحياة: النّدى على أوراقِ الشّجر؟
ما هو التّاريخُ: قصةُ الأرضِ والأجداد؟
دفترُ الحساب لبيعِ وشراءِ الأراضي والبشر؟
عمليةُ شراءِ العقل؟ سَأَلْنا الشيخَ الكاشاريّ،
مَنْ نحن؟
ورقةُ شجرٍ على نعلِ الرّجلِ الأبيض؟
المياهُ التي تُعَكِّرُها حوافِرُ الخيولِ الحربيّة؟
قلبٌ مزقتهُ شظايا الرّصاص؟ سألْنا الشيخَ الكاشاريَّ،
مَنْ أنت؟
أنا التاريخُ: تاريخُ قرنينِ مخفيين.
تاريخُ الاستعمار.
تاريخُ المُستَعمَرين.
5.
قِيلَ لنا
إنّ المؤرّخينَ يُطلقونَ علينا لَقَبَ
"الآخرين".
ننتصبُ على "الأرض".
فيأتونَ. ويجلبونَ ذواتَهم.
نحنُ الأقزامُ السودُ "أبناءُ التّراب".
وهمْ، الطِّوالُ البيضُ الذين لا تشوبُهم شائبةٌ.
نحنُ البعيدون عن
اللغةِ والتّراثِ والثّقافة.
المحاصرونَ هناكَ
في مخطوطاتِهم
في وهمِ الّلغة الّلعينة.
أتوا من مناجمِ الذّهبِ عابرينَ
البحارَ والمحيطات
باحثين عن الإلدورادو
في الشرق.
وَجدُوا مناجِمَ
الذهبِ والفضّةِ والماس.
راقبناهم، وأفواهنا مفتوحة على مصراعيها
نقول الكثير بالصمت.
ولا يزالُ الصمت لغتنا الوحيدة.
هل سنجدُ
لغتَنا يوماً، لغةَ "الآخرين"؟
6.
في ليلةِ المعركةِ الأخيرةِ
تناولَ الجنرالاتُ المهزومون
وجنودهم المهزومون
وجبتهم الأخيرة.
وفي هذه اللحظاتِ الحاسمة من حياتِهم
كانتْ وجبتُهم الأخيرةُ روثَ الخنازيرِ وروثَ الدّجاج.
لم يتذمّر الجنرالاتُ
من وجبةِ الخنوعِ والذلّ.
لقد تقبّلوا كُلّ شيءٍ، كُلّ لُقمةٍ
من وجبتِهمِ الأخيرةِ قبلَ شَقِّ حَناجِرِهِم.
قالَ المنتصرونُ، شياطينُ الأرضِ والماءِ،
"املأوا أرضَ المهزومين بالبذار -
ابنوا القنواتِ والقرى
ودَعوا الغابةَ تتورّمُ وتنتفخُ
بسلالاتٍ جديدةٍ من الكلابِ والخنازير". أينَ كان الجنرالُ المنتَصِرُ؟
لقد فتحَ حظيرةً للخنازيرِ
وأخذَ يتغذّى على الأرواحِ ولحمِ الخنزير.
في البلدِ المحرّر مليارُ خنزيرٍ
ذهبَ للبحثِ عن الخنازيرِ الضائعة.
7.
أما أولئك الذين يُريدونَ الصّعودَ والترقّي في المجتمعِ
فيعضُّونَ على الخوفِ والحذرِ في قلوبِهم. يحملونَ في أقدامِهم أيضاً فنَّ تسلّق الجبال
وخوضِ الأنهار.
أمّا نحنُ، الذينَ اخترْنا النُّهوضَ،
فنرافِقُ أرواحَ التّلال.
ولنرتفعْ فوقَ طبقتِنا الدينيّة المتحجّرةِ
نحتاجُ إلى بركاتِ أرواحِ التّلال.
لهذا
حاولنا عبورَ الجدولِ الفاصِلِ
بين التّلّ والسّهل.
لم تكنْ هناكَ قواربُ. فقدْ أحرقتْها أرواحُ النّهر.
وكانتِ المجاذيفُ مبعثرةً على الرّمالِ النّاعمة.
حاولنا الهربَ من طوائِفِنا
ولكنّنا كنّا مقيّدينَ وعاجِزِين. عادتْ وحوشُ النّهرِ فاتحةَ البشرة.
منحونا القواربَ والطرقاتِ لصعودِ التّلال.
رأينا البحرَ والأرضَ الرّطبةَ الغريبة.
لقد وضعنا حقوقَنا حولَ الفكرِ والأرضِ
على أكتافِ الشُّقرِ- الذين أصبحوا اليوم أوصياءَ علينا. ذاتَ يومٍ، تعالَينا فوقَ المجتمع - فخسِرنا
الجذورَ والهوياتِ والأراضي والأنهار وأنفسنا. ذاتَ يومٍ، نهضْنا بالمجتمع ولكنّنا كنّا مجدّداً
عالقينَ في شبكةٍ من السّلاسلِ تمتدُّ لقرون.
الأوصياءُ الشقرُ أصبحوا المراكزَ اليومَ
وأصبحنا مُجرّدَ نقاطٍ خاملةٍ في مكانٍ ما في محيطِها. اسألوا التّاريخ. فالتاريخُ يَعلمُ جيّداً.
8.
ما زلتُ أسألُ نفسي، ما الذي يوجد في هذه الأرض،
في هذه التّربةِ الخصبة؟
يسألني أبنائي، ما الذي يوجدُ في هذه الأرض،
هذه الأرضِ القاحِلة؟
أبنائي غرباءُ
غرباءُ في وطنِهم.
يمتلكُ أبنائي الإجاباتِ على الألغاز
التي ابتُليَتْ بها عقولُنا لدُهور.
حياتي وكلّ حياةٍ أخرى
مجرّدُ لغزٍ، مجرّدُ سديمٍ ضبابيّ.
وتاريخُنا
تاريخٌ مَعطُوب.
صوت من الشعر الآسامي
Kamal Kumar Tanti، شاعر وناقد هندي يكتب باللغة الأسَامية من مواليد عام 1982، حاصل على دكتوراه في علم الفلك والفيزياء الفلكية. حازت مجموعته الشعرية الأولى "سَلَفُنا مارانغبورو" (2007) "جائزة ميونين باركوتوكي" في 2008 وجائزة "ساهيتيا أكاديمي يوفا بوراسكار" في 2012، ونُشرت مجموعته الثانية "قصائد ما بعد الاستعمار" في 2018. كذلك نُشرتْ قصائده في مختاراتٍ شعريّة مختلفة باللغتين الأسَامية والإنكليزية. كتب تانتي، الذي ينتمي إلى مجتمع أديفازي لعمال مزارع الشاي في آسام، سلسلة من المقالات في نظرية ما بعد الاستعمار وتأريخ التابع، مع التركيز على التاريخ الاستعماري وثقافة آسام، جمعت في كتاب بعنوان "تراث المجتمع التابع" (2007).