يسأل الدكتور وائل فاروق في كتابه "الفتوى في العصر الرقمي: ما الذي يبحث عنه شباب الألفية المسلمين" (2024) الصادر بالإنكليزية عن دار النشر العالمية العريقة "بالغريف ماكميلان"، عن الاهتمامات والآمال الحقيقية للشباب المسلم المعاصر، وهل تخالف هذه الاهتمامات أو تتوافق مع الصورة النمطية التي تقدمها وسائل الإعلام في الغرب؟
في العصر الرقمي، يضع المستفتي فتواه على الموقع الإلكتروني، فيرد عليه الشيخ الرقمي، أو الشيخ الأدمن، أو مفتي الإنترنت إذا صح التعبير، لذلك اختار الدكتور وائل فاروق، أستاذ اللغة العربية في جامعة القلب المقدس في ميلانو، دراسة هذه النماذج اللغوية للفتاوى مستخدمًا نهج لسانيات المتون، لفهم وقائع حياة وأسئلة واهتمامات المسلمين في عصر الديجتال. اعتاد الباحثون على إجراء المقابلات أو التواصل بالبريد الإلكتروني أو من خلال الاتصالات الهاتفية أو توزيع استبيانات تتضمن قوائم مسبقة من الأسئلة موضوع البحث، وغالبًا ما كانت العينات صغيرة أو عشوائية أو مقتصرة على فئات بعينها. يرى فاروق أن هذا النهج يمكن أن يعطينا فكرة أيضًا عن طبيعة الحضور الإسلامي في أوروبا، مما يدفع الباحثين لوضع النقاشات اللاهوتية والسياسية والإيديولوجية المجردة جانبًا وطرح أسئلة جديدة بنهُجٍ جديدة. قسّم فاروق متون الأسئلة التي حلّلها باستخدام لسانيات المتون إلى فئتين: الأسئلة (الفتاوى) التي طرحها المسلمون الذين يعيشون في أوروبا، مستهدفًا دراسة ذلك التداخل المعقد للغاية بين التقاليد الإسلامية والحداثة في سياق المجتمعات الغربية، وهي الفئة الأولى. أما الفئة الثانية وهي المجموعة الأكبر، فكانت متون الأسئلة التي طرحها المسلمون في جميع أنحاء العالم على مفتي الإنترنت، لإجراء تحليل أعمق لاستخدام المسلمين العاديين للفتوى اليوم.
أوليفييه روا: تحليل خطاب أصيل
قدم للكتاب المفكر الفرنسي والأستاذ في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا أولفييه روا. إذ يرى روا أن فاروق يبدّد تلك السحابة القديمة التي أثارت الرأي العام الغربي لفترة طويلة: التقليد مقابل الحداثة، وماكدونالدز مقابل الجهاد وغيرها من الثنائيّات المخلّة. ولا يرى أولفييه روا أن نظام الفتاوى الإلكترونية يمثّل عودة للتقاليد أو مجرد تكيف تقني مع الحداثة، بل ينظر إليه على أنه وسيلة للعيش في الحداثة، أي تبنّي شكل حداثي للنزعة المحافظة، إذ يسبغ المستفتي تغريبًا حقيقيًا على فكره ولغته عندما يهتم في أسئلته بطريقة عيشه كفرد في عالم جديد مختلف، ويصف حالة شخصية ملموسة يعيشها، بدلًا من الغوص في المبادئ الفقهية والقضايا العامة والخلافات، والغرق في تلك الصورة النمطية التي اعتادت السؤال المكرور: "هل يتوافق الإسلام في أسلوب الحياة الأوروبي؟".
الفتوى لغة واصطلاحًا
يبيّن فاروق في القسم الثاني من الكتاب بعنوان "ما هي الفتوى" معنى الفتوى باللغة العربية والذي يتراوح بين التوضيح والفتوة والكمال والتحكيم والشرح وارتباطها بعبارة "أفتاه في الأمر" أي نصحه بشأنه وشرحه له، ويدور المعنى الدلالي للكلمة في ظلالِ محاولةِ تجريبِ فتوى جديدة (أي معنى جديد) للمسألة، مقتبسًا تسمية العرب لليل والنهار (بالفتَيَان) لتجددهما كل يوم. أما الفتوى بالمعنى الاصطلاحي الفقهي فهي وفقًا للشيخ الدكتور قطب الريسوني: "إخبار المستفتي بالحكم الشرعي في خصوص مسألته عن نقلٍ أو اجتهاد بلا إلزام". يدرس فاروق تاريخ الفتوى أيضًا ويقول إنها "قديمة بقِدَمِ الشريعة ذاتها"، وقد مرّت بمراحل متعددة بدءًا بكونها "آلية لتمكين الشريعة في سياق القرآن والسنة"، لتصبح بعدها "محركًا للفهم الجديد لهذين المصدرين" بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لتنتهي إلى "تجسيد الضمانة الأساسية للربط بين الفقه والاحتياجات الفردية والواقع الفردي". ولكن الطابع الأساسي الذي ميز الفتوى خلال هذه المراحل جميعها هو "الحرية: حرية السؤال، وحرية الانصياع للإجابة". ويلخص فاروق مراحل تطور الفتوى مقتبسًا رأي ابن الجوزي الذي يقول: "فقد كان العلم في صدور الرجال- ضمائرهم- ثم انتقل إلى بطون الكتب، لا يجد إلا من يجتره دون أن يضيف إليه جديدًا باجتهاده، ومازالت الهمم تتقاصر- عن الاجتهاد- وآل الأمر إلى خلف هم بئس الخلف، فمات العلم".
فقه الأقليات الإسلامية في أوروبا
قدّر عدد المسلمين في أوروبا في 2010 بحوالي 18 مليون وتجاوز عددهم في 2018 حوالي 25مليونًا. وتراوحت التحديات بين تحديات المجتمعات المضيفة وتحديات الضيوف أنفسهم، والمسائل الجديدة التي وضعت الفقه على المحك مجددًا، حيث أجبرته الظروف على "تشكيل صيغ جديدة تتوافق مع المجتمعات الغربية". يتطرق فاروق في القسم الثالث الذي جاء بعنوان "الإسلام والحداثة: تناقضات التعايش"ظاهرة الفتوى التلفزيونية التي سادت في العقد الأول من الألفية، ونقاش ظاهرة فتوى رضاع الكبير في المجتمع الحديث المعاصر، والتي انتشرت على الشاشات وصبغت العديد من طبقات النقاش العام، وأدت إلى الكثير من الخلافات والاختلافات في الآراء. ويناقش فاروق في القسم الرابع من الكتاب بعنوان: "المسلمون الأوربيون والفتوى الرقمية" تزايد عدد المسلمين في أوروبا اعتبارًا من الموجة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، حتى الفترة التي تلت أزمة اللاجئين في أوروبا بعد عام 2016، فقد ظهر فقه الأقليات في التسعينيات والذي عرّفه العلامة عبد الله بن بيَّه بأنه: "الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام". حيث توصف أوضاع هذه الأقلية المسلمة بأنها "أوضاع ضرورة، بالمعنى العام للضرورة، ولهذا احتاجت إلى فقه خاص". ينطلق فاروق إلى التحليل الإحصائي للأسئلة والفتاوى التي يطرحها المسلمون في أوروبا، ويوضّح أسس وأدوات نهج لسانيات المتون الذي اتبعه، حيث درس أرشيفات الفتاوى الكاملة في المواقع الإلكترونية مبوبة بحسب الموضوع والكلمات المفتاحية. فحدّدَ أولًا المواقع المعنية ثم انتقل للتحليل اعتبارًا من الموقع الجغرافي للسائل، على المواقع الإلكترونية الثماني عشرة الرئيسة في أوروبا، ثم تابع خطوات البحث نحو تحليل الثيمات الذي يقوم على البحث الكمي الذي يحدّد ويحلّل ويفسّر أنماط المعنى (أو الثيمات) ضمن مجموعة من البيانات الكمية، ثم وضع 14 رسمًا بيانيًا يوضح النتائج. كانت النتائج على النحو التالي: لا تتعلق اهتمامات المسلمين وآمالهم في أوروبا بالمواضيع المثارة على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإعلام عمومًا. فالقليلون يسألون عن الخلافات الفقهية والخلافات في تفسير القرآن، والخلافات بين المذاهب الإسلامية، والرموز الدينية في الفضاء العام، وبناء المساجد. ويميز المسلمون في أوروبا بين الفضاء الديني الخاص والنشاط السياسي والانخراط في الشأن العام. أما الاهتمام الرئيس لهؤلاء المسلمين هو علاقتهم بالآخر، من المسلمين وغير المسلمين.
الهاتف الذكي والحمّام
يبدأ فاروق القسم الخامس بعنوان "الشباب المسلمون والفتوى الرقمية" بقصة شاب حمّل نسخة القرآن الكريم على هاتفه الذكي، وأراد الدخول إلى الحمام، فحار إذا ما كان يسمح بدخول الحمام حاملًا في هاتفه تلك النسخة من المصحف، فكتب على الانترنت يستفتي مفتي الإنترنت حول هذه المسألة. تدل هذه الحكاية على الكثير من النقاط الأساسية المتعلقة بالفتوى الرقمية، وأولها أن المستفتي هنا شاب، كما تؤكد إحصائيات المواقع الإلكترونية أن نسبة كبيرة للغاية تتجاوز الثلثين من زوارها هم من الشباب من جيل الألفية المولودين بين عامي 1981-86، أو من جيل Z المولودين بين عامي 1997-2012، والذين يعيشون في أوروبا. لذلك ركّز فاروق على الأسئلة الأساسية المتعلقة بهذا الجيل: من هم بالضبط هؤلاء الذين يطلبون الفتوى؟ ولماذا توجهوا إلى مفتي الإنترنت؟ وكيف يستخدمون الفتوى؟ وما الذي يسألون عنه وما الذي يبحثون عنه؟ توسّعَ فاروق بعد طرح هذه الأسئلة في شرح نهج لسانيات المتون وإيجابياته وسلبياته، ثم وضع العديد من المخططات والجداول والنتائج حول المتون التي حللها من الكلمات الأساسية المستخدمة، إلى صيغة السؤال، إلى زمن الجمل والكلمات المتكررة ...وغيرها من المتغيرات الدقيقة الأخرى، وكيف يمكن لمجرد معرفة الضمير المستخدم في السؤال معرفة جنس المستفتيين وأعمارهم ووظائفهم.
الأنا الحاضرة والمفتي الغائب
حدث تغير كبير في السبعينيات في خطاب الفتوى الذي لم يتغير عبر قرون طويلة، حيث تحول من العلاقة المباشرة أو شبه المباشرة بالمفتي إلى علاقة غير مباشرة، بل افتراضية في العالم الافتراضي، مما غير خطاب الفتوى وعلاقاته الداخلية، حيث تراجع الاستقطاب في هذا الخطاب، وتراجعت الأحكام الفقهية والاجتماعية لتفسح المجال للقضايا الفردية. وهذا ما يناقشه فاروق في القسم السادس من الكتاب والذي جاء بعنوان "النقاش والخلاصات العامة".لطالما اعتمدت الفتوى على الكتب المرجعية وعلى أسماء المفتين التي تمنحها القوة والسلطة والأهمية، مما جعلها تقدم للشريعة ما تريده السلطة وليس ما يبحث عنه الفرد. وفرض العالم الافتراضي اليوم وتكنولوجيا الإنترنت وجود السؤال والسائل، مما يقيد من إمكانية تعميم الفتوى على المستوى العام. ولم يعد مهمًا معرفة اسم المفتي وأخلاقياته ودينه ومؤهلاته العلمية، والتي أصبحت جميعها مضمونة بواسطة اسم الموقع الإلكتروني الذي يضع عليه المستفتي سؤاله.
الدين والإيديولوجيا
لم يتفق المجتمع العلمي على دراسات لسانيات المتون، واختلف الباحثون في جدارة نتائجها، ومنهم تشومسكي، ولكن لم يختلف أحد على أهميتها وفائدتها كأدوات إضافية للصورة الكبرى للبحث العلمي. ولكن تحليل لسانيات المتون هنا يسمح للباحث بفحص كمية ضخمة من البيانات قد لا تتوفر في أي نهج بحثي آخر. وفي الخلاصة الأخيرة يعيد الدكتور وائل فاروق التأكيد على تأثير انتشار المواقع الإسلامية على فهم واهتمامات الشباب المسلم في أوروبا ومختلف أنحاء العالم، وعلى أهمية تطوير منهجيات جديدة لدراسة هذه الاهتمامات، والتداخل بين التقاليد الإسلامية والحداثة، واستخدام المسلمين للفتوى في العصر الحديث. كما يؤكد على تحول مفهوم الفتوى ودورها وكيف تحولت إلى وسيلة للتأكد من الشرعية بدلًا من السعي للتوجيه الروحي الحقيقي، إذ يسود المجتمعات الإسلامية في أوروبا والعالم القلق من ارتكاب الخطايا بدلًا من السعي نحو الخير العام والخاص. ومع تحول الفتوى إلى الإنترنت وسهولة الحصول عليها بهذه الطريقة فقدت الحاجة للتأمل والتفكير والتساؤل، ولكل هذا وذاك تحول الدين إلى إيديولوجيا تؤثر على المعنى الشخصي والجماعي للتديّن.
صدر للدكتور وائل فاروق عن منشورات المتوسط "موتا" في إيطاليا بالإنكليزية كتاب "الهويات العربية المتصارعة: اللغة والتقاليد والحداثة" (2018) وبدأت إرهاصات كتاب "الفتوى في العصر الرقمي" في دراسة " تحليل خطاب الفتوى بواسطة لسانيات المتون" نشرها فاروق بالإنكليزية وصدرت عن منشورات المتوسط أيضًا (2023)، كما صدر له بالعربية كتاب "مقالات في الرواية العربية" مع الدكتور محمد برادة وصلاح فضل وخيري دومة، وكتاب "الاختباء في النور: تجارب ما بعد حداثية من المسرح المعاصر" (2022) عن الدار نفسها، وكتاب "تحليل الخطاب في رسائل إخوان الصفا" عن منشورات سلسلة شرفات التي تصدرها مكتبة الإسكندرية (2018).