الكاتب البريطاني جيه آر آر تولكين
عماد الأحمدآخر تحديث
-"ليس أمامنا سوى الصمود في وجه هجوم أرض موردُور"
-"المنطقة خالية من الأُورك"
العبارة الأولى هي لوزير الدفاع الأوكراني والثانية لمسؤول أوكراني رفيع، أما الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي فقد دعا إلى ألا تغدو أوكرانيا "المنطقة الحدودية الفاصلة بين الأورك والإلف".
هذه هي الذخيرة التي منحها عالم ج. ر. ر. تولكين الروائي الملحمي لشخصياته وأماكنه الخيالية لتتلبّسها أي ملحمة تدّعي الفصل ما بين الخير والشر.يصادف الثاني من سبتمبر/ أيلول ذكرى مرور خمسين عاما على وفاة الكاتب الروائي والفقيه اللغوي والأستاذ الجامعي البريطاني جون رونالد رويل تولكين المولود في جنوب أفريقيا في 3 يناير/ كانون الثاني 1892، عن عمر ناهز 81 عاما.يقول تولكين إنه ليس لديه الكثير من الذكريات عن أفريقيا سوى بعض الصور النابضة التي لا تنسى مثل مصادفته طفلا لعنكبوت ضخم مشعر غريب، ربما أثّرت هذه المصادفة على نحو ما في خياله وكتاباته اللاحقة.شارك تولكين في الحرب العالمية الأولى كضابط إشارة وأصيب وعاد إلى إنكلترا ليعمل بعد انتهاء الحرب في قاموس أكسفورد، ثم في تدريس اللغة الإنكليزية في جامعة ليدز، ليغدو بعدها أستاذا للغة الإنكليزية في جامعة أكسفورد في 1925. انتقل تولكين في 1945إلى كلية ميرتون بأكسفورد أستاذا للغة والأدب الإنكليزيين، وتقاعد في 1959.
وفي عام 2009 صدر عن منشورات جامعة أكسفورد كتاب "خاتم الكلمات: تولكين وقاموس أكسفورد"، يدرس الفترة التي قضاها تولكين في العمل في قاموس أكسفورد بعد عودته من الحرب العالمية الأولى، والتي قال عنها إنه قد "تعلم خلال هذين العامين أكثر من أي فترة أخرى في حياته"، وإنها قد أثّرت على أسلوبه الإبداعي في استعمال الكلمات واللغة في عالمه الأدبي الخيالي. أتقن تولكين اللغات الرئيسة في الأدب والفنون حينها وهي اللاتينية واليونانية، وعزّز مهاراته في عدة لغات أخرى حديثة وقديمة ولا سيما القوطية، والفنلندية لاحقا. كما أمضى وقتا طويلا بتكوين لغاته الخاصة، على سبيل المتعة الشخصية فاخترع واحدة من أكثر اللغات المصطنعة شهرة في عالم الأدب والفن ظهرت بادئ ذي بدء في "الهوبيت" ثم في "سيد الخواتم"، وهي لغة "الإلفيش"، أي لغة المخلوقات التي تعيش في الأرض الوسطى (ميدل إيرث) والتي تضم آلاف المفردات وتنقسم لغتين هما: سندراين، اللغة اليومية لهذه المخلوقات، وكوينيا، اللغة الخاصة بالقصائد والسحر.
تدور أحداث أشهر أعمال تولكين في عالم الأرض الوسطى (ميدل إيرث) الخيالي، حيث صاغ في خضم أهوال الحرب العالمية الأولى ذلك العالم الأسطوري الغني. وقد أشار العديد من النقاد إلى أن تجاربه في الخنادق ورغبته في الهروب من الواقع المرير للحرب كانت الدافع لخلق عالم مليء بالهوبيت والإلف والأقزام مع سيد الظلام ساورون. ويرى نقاد آخرون أنها عبارة عن قصة رمزية عن الحرب ذاتها، ويجتهدون في لصق كل شخصية من شخصياته بأحد القادة في الحرب وكل أمة من هذه المخلوقات ببلد معين، عندما كان الخير والشر (وفقا للرواية الغربية) واضحين وضوح الشمس، ولكنه لا يوافق في معظم مقابلاته على هذا الرأي، ويؤكد أنه لا يحبّذ القصص الرمزية، بل يتجسّد شغفه في القص والحكي والسرد وخلق العوالم والأساطير التي تتمتع بتاريخها وثقافاتها ولغاتها الخاصة، إذ أن الحكايات الرمزية التي يمكن إسقاطها على الواقع يمكنها أن تقيّد الخيال والبعد الأخلاقي للحكاية، لذلك يصرّ على التعامل مع رواياته كعوالم قائمة بذاتها.
تحوّلت هذه العوالم الملحمية إلى روايتي "الهوبيت" و"سيد الخواتم" بأجزائها الثلاثة، ورواية "سلماريليون" وشكلت بمجموعها ما أطلق عليه "الليجندريوم الخاص بتولكين" أو مجموعة أساطير تولكين.
يحكي تولكين أنه عندما كان منهمكا يوما في تصحيح أوراق الطلبة، المهمّة التي وصفها بأنها مدمّرة للنفس والروح، ترك أحد التلاميذ ورقة الإجابة فارغة، ولم يعرف تولكين بالضبط أي شيطان قد وسوس له كتابة هذا السطر: "يحكى أنه في حفرة بالأرض كان يسكن أحد الهوبيت"، ومن هنا انطلق في رحلة معرفة ماهية الهوبيت هذا والحفرة التي يسكنها ولماذا يسكنها أصلا. وعندما أنجز المسودة الأولى للرواية ورسم بعض الرسوم التوضيحية الأولية بنفسه رواها لأطفاله. قرأت سوزان داغنال الموظفة في دار النشر (ألن آند أنوين) وقدمتها على الفور لمديرها ستانلي أنوين الذي قرأها لابنه راينر الذي كان في العاشرة من عمره حينها، لتنشر بعدها الرواية في عام 1937.تدور أحداث رواية "الهوبيت" في "الأرض الوسطى"، وتشكل خلفية لعمله الأكثر شهرة، ثلاثية "سيد الخواتم". تتبع رواية "الهوبيت"مغامرات بيلبو باغنز، الهوبيت البسيط الذي يعيش حياة وادعة والذي تتغير حياته تماما عندما يجنّده الساحر غاندالف ومجموعة الأقزام للانضمام إليهم في مهمة استعادة الكنوز في موطنهم الذي سكنه أجدادهم، في منطقة "ديل" على الجبل الوحيد، من التنين سموغ الذي يحرسها. يتردّد الهوبيت بيلبو في البداية، لكنه ينضم إليهم في تلك الرحلة الملحمية التي تغيرّه وتجعله أحكم وأجرأ وتعرّفه على جوانب جديدة في نفسه.
نتعرّف طيلة الأحداث على أقزام وأنواع من الإلف وبشر وعفاريت وعناكب ونسور وذئاب وسحرة وأورك وكل ما لا يمكن تخيله من عوالم وأعراق. أدرك تولكين الشغوف بالملاحم والأساطير والفلولكلور افتقاد بريطانيا إلى الأساطير الشاملة والغنية مثل الميثولوجيا اليونانية القديمة والإسكندنافية لذلك أخذ على عاتقه ابتكار هذا النوع من الأساطير عبر رواياته وسدّ هذه الفجوة في الميثولوجيا البريطانية لإيمانه بضرورتها للهوية الثقافية للبلاد ووعيها التاريخي. أراد تولكين لهذه الحكايات أن تغدو جزءا أصيلا من التقاليد الأدبية البريطانية، لذلك استقى من نبع ثري من الملاحم النوردية والشعر الإنكليزي القديم وأساطير الملك آرثر ليصوغ أساطيره الفريدة.
الثلاثية الملحمية "سيد الخواتم" أشهر أعمال الفانتازية المعاصرة وأكثرها تأثيرا في القرن العشرين، والتي تتكون من ثلاث روايات تنشر عادة في مجلد واحد: "رفقة الخاتم" (1954): الكتاب الأول في السلسلة الذي يعرفنا بالشخصيات الرئيسة التي تتجه في مهمتها الملحمية، حيث يقوم الهوبيت فرودو باغينز ورفاقه في رحلة تدمير الخاتم الأوحد، القطعة التي تتمتع بقوى ظلامية كيلا يحصل عليه سيد الظلام ساورون ويحكم العالم. "ميدل إيرث" هو العالم الذي تدور فيه هذه الرواية أيضا."البرجان" (1954): الكتاب الثاني حيث يستمر فرودو وسام رحلتهما الأسطورية نحو جبل الموت لتدمير الخاتم في خضم حروب الأرض الوسطى وصراعاتها، ويقدم شخصيات جديدة ومختلفة ومخلوقات غريبة لا تنتهي ويوسّع نطاق الحكاية."عودة الملك" (1955): يجمع الكتاب الأخير الشخصيات جميعها نحو الخاتمة الملحمية الأسطورية. تصل مهمة فرودو لتدمير الخاتم الأوحد إلى اللحظة الحاسمة وتنكشف أمامنا المصائر النهائية للشخصيات ومصير عالم "ميدل إيرث" بأكمله.
تحفر ثلاثية "سيد الخواتم" في ثيمات وموضوعات عميقة أهمها مفسدة السلطة، والخير والشر والصراع الأزلي بينهما، والبطولة، وعواقب الاختيارات والإرادة الحرة.
Getty Images
تنهض القصة على شخصيات تمثّل قوى الخير مثل فرودو وسام وأراغورن وغاندالف، وشخصيات تمثّل قوى الشر يجسّدها ساورون وأتباعه. وتتعمّق الرواية في الخيارات الأخلاقية للأفراد في مواجهة الشر والعواقب المترتبة على تلك الخيارات. أما الخاتم الأوحد فهو الرمز الأكثر وضوحا لمفسدة السلطة، فالخاتم الذي يتمتع بقوى مظلمة يعد مالكيه بالقوة المطلقة ويفسد أخلاقهم ويجعلهم عبيدا لإغرائه وغوايته. أما علاقة فرودو وسام وإخلاص الأخير الشديد، فيركزان على الصداقة والولاء وقوة هذه الصفات الإنسانية السامية وصمودها في أحلك الظروف. وتصور الثلاثية أيضا البطولة في أبهى حللها، وفي مختلف أشكالها من البطولة الملحمية لكل من أراغورن وليغولاس، إلى البطولة البسيطة اليومية للشخصيات العادية.
مدينة "شاير" التي يعيش فيها الهوبيت بريفها الهادئ الساكن الذي يغري بالتأمل والسكينة تشير إلى عالم الطبيعة المثالي، أما أرض "مودور" المظلمة فتشير بوضوح إلى العالم الصناعي والقوى المدمّرة للتكنولوجيا والجشع الذي لا حدود له والمنفلت دوما من عقاله.ولكن تولكين الروائي الفذّ لا يقع في فخ تسطيح الشخصيات ويتفهّم بعمق إمكانية المغفرة والتسامح وأهمية التحلّي بالرحمة حتى مع الذين يرتكبون أفعالا فظيعة وشخصية الكائن غولوم مثال ناصع عن هذا التسامح. تتمتّع الشخصيات أيضا بالقدرة على الاختيار والإرادة الحرة وتشكيل مصائرها بأيديها مهما بدت الأحداث حتمية. ولا يمكن إغفال دلالة التنوّع الثقافي والعرقي في عالم "ميدل إيرث" حيث تعيش أعراق وثقافات ولغات متنوعة للغاية. ومن الموضوعات الهامة في الثلاثية فكرة نكران الذات لتحقيق الخير العام مهما تكبدت الشخصيات الخيّرة من خسائر ومهما بلغت التضحيات. أما فكرة التغير مع مرور الأحداث واستفادة الشخصيات من تجاربها فكرة ثاقبة للغاية وخاصة مع شخصية بيلبو التي تتطور على الدوام مع كل خيار جديد، واكتمال حكمته عندما رفض إغراء الخاتم الأوحد في تجنب الشيخوخة وقرر ترك شاير ليواجه مصيره بنفسه.
بعد وفاة تولكين تصدّى نجله كريستوفر تولكين لتحرير أعماله وإصدارها فنشر في عام 1977التحفة الفانتازية "السيلماريليون"، والتي أمضى أربع سنوات في تجميعها وتحريرها، والتي تتكوّن من عدّة قصص تغطّي كل منها جوانب مختلفة من تاريخ عالم "ميدل إيرث" وأساطيره وأهم الأحداث الرئيسة في تكوينه، وتنقسم هذه الرواية التي لا تتمتع بحبكة تقليدية خطية تقليدية إلى: آينوليندالي: يغطي هذا القسم فترة خلق العالم على يد "إيرو إيلوفاتار"، وغناء وموسيقى كائنات "الآينور" الذي يساعد في تشكيل هذا العالم عبر تحويل أفكار "إيلو فاتار" إلى موسيقى عظيمة. يشوّش "ميلكور" المتمرّد، الذي أصبح سيد الظلام "مورغوث"، على هذين الغناء والموسيقى ويبثّ فيهما الاضطراب فتنشأ النزاعات والاضطرابات.فالا كوينتا: مدخل للتعرف على كائنات "الفالار" وكائنات "الميّار" المساعدة لها، وهي الكائنات القوية التي تشكّل العالم وتوجّه مصيره.كوينتا سيلماريليون: يشكل هذا الجزء الأكبر من الكتاب ويحتوي على قصص متعددة منها:سرقة جواهر "السيلماريلس" التي يرغب "مورغوث" بالحصول عليها بأي ثمن. وقصة "بيرين" (البشري) و"لوثايين" (إحدى أميرات الجان) اللذين ينطلقان في محاولة استعادة إحدى هذه الجواهر من تاج "مورغوث"، وتشكل قصة الحب والتضحية هذه العنصر الأساسي في هذه الرواية. هناك أيضا قصة سقوط "نومينور" التي تحكي عن حدث كارثي يؤدّي إلى تدمير مملكة جزيرة "نومينور"، بسبب فساد شعبها.أما حرب الجواهر فتتحدث عن هزيمة "مورغوث" بعد سلسلة من المعارك بينه وبين مختلف الأعراق في "ميدل إيرث". ثم تأتي قصة "أكالابيث" (غرق نومينور) التي تؤرّخ سقوط "نومينور" وبقاء بقية المؤمنين. ونصل في النهاية إلى قصة خواتم القوة والعصر الثالث، والتي تقدّم خلفية عن خواتم القوة، ومن ضمنها الخاتم الأوحد، العنصر المحوري في "سيد الخواتم".
نشر كريستوفر تولكين العديد من أعمال والده بعد وفاته وأتاح هذا التراث الهائل للقراء وعشاق تولكين رغم تخوّف الناشرين في البداية من تقبّل القراء عمل كريستوفر، ولكن النتيجة كانت مذهلة. يحتفل عشاق تولكين في 25 مارس/ آذار من كل عام بـ "يوم قراءة تولكين" وهو يوم سقوط "ساورون" في "سيد الخواتم".باعت هذه السلسلة الفانتازية أكثر من 150مليون نسخة وترجمت إلى أكثر من 40 لغة حول العالم، وحققت الأفلام الثلاثة التي أخرجها بيتر جاكسون واقتبسها من هذه السلسلة بميزانية لم تتجاوز 287 مليون دولار في شباك التذاكر بين عامي2001 و2003 قرابة ثلاثة مليارات دولار، واشترت شركة أمازون حقوق السلسلة لإنتاجها كمسلسل بميزانية ضخمة في 2017 لتعرضها على منصتها "برايم".لم تصبح هذه الفانتازيا التي بدأت صدفة بجملة في لحظة عصيبة، وعدة رسومات وحكايات يسردها تولكين لأطفاله قبل النوم، أسطورة بريطانية وحسب، بل أسطورة كونية وضعت اللبنات الأساسية للأسطورة المعاصرة للعالم.
نشرت في مجلة المجلة