دخان يتصاعد جراء القصف الاسرائيلي والمعارك في شمال قطاع غزة في 30 أكتوبر 2023
عماد الأحمدآخر تحديث
تحوّلت فلسطين إلى مختبر نموذجي لتطوير منتجات المجمع التكنولوجي العسكري الإسرائيلي، الذي يطور أجهزة وبرمجيات المراقبة، وحيث تمارس الدولة هدم المنازل، والسجن الاحتياطي لأجل غير مسمى، وتطوير أدوات التكنولوجيا الفائقة.أنهى أنتوني لوينشتاين، الصحفي اليهودي الأسترالي كتابه الاستقصائي الشيق "مختبر فلسطين: كيف تصدر إسرائيل تكنولوجيا الاحتلال حول العالم" والذي صدر في مايو/ أيار عن دار النشر البريطانية "فيرسو بوكس" (2023) والذي يفصّل فيه بدقة وبالإحصائيات والأدلة الاستقصائية كيف حوّلت إسرائيل الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مختبر لتجريب واختبار وتسويق الأسلحة وتكنولوجيا المراقبة، من برامج مراقبة الهواتف، إلى الأسلحة لجيش ميانمار، إلى الطائرات من دون طيار التي تراقب المهاجرين واللاجئين في البحر المتوسط.
"لقد استمر نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لمدة 46 عاما. إسرائيل اليوم في عامها الـ75 وما زال العد مستمرا" يبدأ لوينشتاين مقدمة كتابه بهذا الاقتباس من "لندن ريفيو أوف بوكس" ليوضح رأيه القاطع، والطريق الذي سوف تسير عليه فصول الكتاب السبعة.
يفتتح لوينشتاين الذي عمل مع صحيفة "نيويورك تايمز"، و"غارديان"، و"بي بي سي"، و"واشنطن بوست"، و"ذي نيشن"، و"هافينغتون بوست"، و"هآرتس"، في المقدمة الحديث عن إليوت أبرامز، أحد المحافظين الجدد ومهندس سياسة "الحرب على الإرهاب" في عهدي بوش الابن وترامب، والذي يقول إن "دور إسرائيل أن تشكل نموذجا لا بد أن يقتدى باعتبارها مثالا عن القوة العسكرية والابتكار".يشغل الفرق بين الحركة الفلسطينية والدولة اليهودية القومية تفكير الكاتب، فيقتبس رأي إدوارد سعيد الذي كتب في 1984في مقالات "الإذن بالرواية" أن "الصهيونية زهرة نمت في دفيئة القومية الأوروبية، اللاسامية والاستعمارية، في حين أن الوطنية الفلسطينية التي انبثقت من الموجة الكبرى من المشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار، وعلى الرغم من اصطباغها بالمشاعر الدينية الرجعية، تتموضع منذ سنة 1967، في التيار المركزي للفكر العلماني ما بعد الاستعماري". ويؤكد الكاتب أن بنيامين نتنياهو قد عزز في القرن الحادي والعشرين فكرة الدولة القومية اليهودية والاحتلال الأبدي للأراضي الفلسطينية.
ويشكل اقتصاد السلاح وتقنيات الشركات في تسويق الأسلحة لبّ عمل لوينشتاين الذي ينقل عن أحد خبراء اقتصاد الاحتلال أن مصنّعي الأسلحة الإسرائيليين يسوقون رسالة معينة تعكس التجربة الحية في معاملة الفلسطينيين بوحشية ويلخص هذه الرسالة التي تقول: "نحن نعلم أن الطريقة الوحيدة لمحاربة الإرهاب هي الحكم على الناس من خلال مظهرهم ولون بشرتهم".ومما يثير الاهتمام تتبع لوينشتاين لعملية أسرلة أجهزة الأمن الأميركية مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، حيث أصبحت هذه الأجهزة بعد الكارثة تقلد معاملة الإسرائيليين للفلسطينيين.يؤكد توماس فريدمان في أحد مقالاته أن "إسرائيل، التي يبلغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة فقط، أصبحت واحدة من أكبر عشرة مصدّرين للأسلحة في العالم".
يقول مستشار عسكري إسرائيلي في غواتيمالا في فترة الثمانينات من القرن الماضي: "لا يهمني ما يفعله الأغيار بالأسلحة، المهم أن يربح اليهود".ينطلق لوينشتاين في الفصل الأول الذي عنونه "بيع الأسلحة لمن يريدها" من علاقة الإسرائيليين بنظام بينوشيه في تشيلي على الرغم من رفض الإسرائيليين نشر وثائق توضح دورهم هناك، حيث دربت إسرائيل أفراد الأمن التشيليين لمساعدتهم في قمع شعبهم. وتابعت إسرائيل توريد الأسلحة لهذا النظام حتى بعد حظر الأسلحة الذي أقرّه الكونغرس في 1976. واستمرّت إسرائيل منذ تأسيسها بتصدير الأسلحة للعديد من البلدان ومن ضمنها سريلانكا وزيمبابوي وبلجيكا وألمانيا، وقد وصف الكاتب والباحث الإسرائيلي حاييم بريشيث -زابنر توجه الاقتصاد الإسرائيلي بأنه قد تخلى عن البرتقال لصالح القنابل اليدوية.
وفي علاقة الإسرائيليين بكولومبيا والحرب الأهلية التي استمرّت هناك لنصف قرن، يؤكد لوينشتاين تدريب الأميركيين والإسرائيليين وتسليحهم لفرق الموت في كولومبيا في العقد الأول من القرن العشرين، إذ يقول أحد تجار المخدرات الكبار الذي تفيد تقارير عن وجوده في إسرائيل منذ عام 2004، والذي كان يقود ميليشيا يمينية متطرفة في سيرته الذاتية: "لقد نسخت مفهوم القوات الشبه نظامية من الإسرائيليين".
قدّرت مبيعات الأسلحة لشاه إيران قبل الثورة بحوالي مليار و200 مليون دولار، وارتبطت إسرائيل بعلاقة سرية تجارية وعسكرية مع جنرالات سوهارتو في إندونيسيا، وحتى رومانيا تشاوتشيسكو الذي عرفت عنه آراء معادية للسامية، قال السفير الإسرائيلي في بوخارست في برقية عنه أنه "يرى إسرائيل بوصفها نقطة تجمع لليهود الأثرياء الذين يمكن الاستفادة من قدراتهم الاقتصادية وعلاقاتهم الدولية"، وقد صدرت إسرائيل رشاشات عوزي والعربات المدرعة إلى هاييتي تحت حكم بابا دوك وابنه بيبي دوك بين عامي 1957و1986 .وكان لنيكاراغوا وعائلة ساموزا تاريخ طويل حيث استمرت إسرائيل بتسليح النظام حتى نهايته في 1979 ، ثم دربت ميليشيات الكونترا المضادة لثوار الساندست من خلال شركات عسكرية خاصة يقودها ضباط قوات خاصة متقاعدون من الجيش الإسرائيلي.
وفي الفصل الثاني الذي جاء بعنوان "11 سبتمبر موسم مفيد للأعمال" قال نتنياهو على التلفاز الأميركي ليلة 11سبتمبر "هذا أمر جيد، لا أقصد أمرا جيدا بالطبع، ولكنه سوف يولد تعاطفا فوريا.. وسوف يمتّن الروابط بين شعبينا، لأننا عانينا من الإرهاب لعقود طويلة" ثم يؤكد الرسالة نفسها بعد سبعة أعوام في خطاب في إحدى الجامعات "لقد استفدنا من شيء واحد بعينه، وهو الهجمات على برجي التجارة والبنتاغون والصراع الأميركي في العراق، فقد رجحت هذه الأحداث الرأي العام الأميركي لصالحنا". تنتج إسرائيل المنتجات الحربية التي يتعطش إليها العالم، وتحقق المليارات من هذه الصناعة وترسل رسالة واضحة للعالم تقول، كما لخصتها نعومي كلين في كتاب "عقيدة الصدمة": ""إننا نخوض حربا على الإرهاب منذ ولدنا. وسوف نعلمكم كيف تقومون بهذه المهمة".في كتابه "أمة الشركات الناشئة: حكاية معجزة إسرائيل الاقتصادية" يؤكد دان سينور على أن جيش الدفاع الإسرائيلي والحكومة شكلا نموذجا يقتدى للعالم من خلال تمويلهما ودعمهما لشركات التكنولوجيا الناشئة. وتتطلب إيديولوجيا أمة الشركات الناشئة التسويق المستمر للمنتجات بسبب المنافسة الداخلية والعالمية الشرسة، لذلك تسوق هذه الشركات من خلال حملات إعلانية ضخمة لإقناع الشباب بالانضمام لقطاع الدفاع ولهذه الشركات الناشئة المرتبطة به. وقد أتت مقامرة إسرائيل بعد أكثر من عقدين من أحداث 11 سبتمبر 2001 أُكُلَها، فقد ازداد الاهتمام العالمي بقطاعي الدفاع والمراقبة وقد أنفقت إسرائيل في عام 2020 حوالي 22 مليار دولار أميركي على جيشها وكانت ثاني عشر أكبر مورد عسكري في العالم، إذ تجاوزت مبيعاتها 345 مليون دولار أميركي.
في الفصل الثالث "منع اندلاع السلام" يقول لوينشتاين "إن قتل أو إصابة الفلسطينيين ينبغي أن يكون سهلا مثل طلب البيتزا" ويقتبس ليدلل على هذا المنطق عند الجيش الإسرائيلي إجابة كولونيل مسؤول عن تطبيق صممه الجيش يسمح للقوات بإرسال تفاصيل دقيقة عن أي هدف يراد تحييده في الميدان للجنود قائلا لموقع إلكتروني عسكري إن الأمر سيكون "أشبه بطلب كتاب على أمازون أو طلب بيتزا في مطعم بيتزا باستخدام هاتفك الذكي".
نَحَتَ الباحث الإسرائيلي وأستاذ علم الاجتماع الراحل باروخ كيمرلينغ مصطلح القتل السياسي في عام 2003، وشرحه بأنه عملية تهدف إلى حل وجود الشعب الفلسطيني ككيان اجتماعي وسياسي واقتصادي شرعي، وربما تشمل هذه العملية التطهير العرقي الجزئي لهذا الشعب أو ربما التطهير الكامل من الأراضي التي تعرف باسم أرض إسرائيل.لم تبد إسرائيل أي مخاوف من مغبة سلوكياتها العدائية من قبل المحكمة الجنائية الدولية أو التعرض لأي عقوبات كانت. وفي نقاش على الإذاعة الإسرائيلية قال أحد رؤساء الأركان السابقين مبررا سياسة استخدام القناصين ضد الشعب الفلسطيني، وحتى ضد الأطفال إذ تحتاج الدول لمثل هذه السياسة: "إذا اقترب طفل أو أي شخص آخر من السياج لدسّ عبوة ناسفة أو التحقق من وجود مناطق لا ترصدها الكاميرات أو لقطع السياج ليسمح للآخرين بالتسلل إلى أراضي دولة إسرائيل لقتلنا.." فسأله المذيع: "العقوبة هي الموت إذن" فرد الجنرال: الموت.. نعم.. هل تريد أن تناقشني إذا ما كان دمنا أغلى أم دمهم".
أصبحت إسرائيل، كما يرى لوينشتاين في الفصل الرابع الذي عنونه "بيع فكرة الاحتلال الإسرائيلي للعالم" لاعبا رئيسيا في سياسة الاتحاد الأوروبي لعسكرة حدوده ومحاولة ردع الوافدين الجدد، وهي السياسة التي انتعشت بعد التدفق الهائل للمهاجرين في عام 2015.وقد أعلن الاتحاد الأوروبي في عام 2020 عن شراكات بقيمة 91 مليون دولار أميركي مع إيرباص، وصناعات الفضاء الإسرائيلية وغيرها لاستخدام خدماتها للحفاظ على وجود مستمر للطائرات من دون طيار فوق البحر الأبيض المتوسط لمراقبة المهاجرين.يرى لوينشتاين أنه الحفاظ على ازدهار هذا المختبر العسكري الهائل في فلسطين، يتطلب أن يحظى بإيمان عدد كاف من الدول في العالم بفرضيته الأساسية، وقد كانت ألمانيا هي الجائزة الكبرى. فإسرائيل ساعدت في إعادة تأهيل صورة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومنحت ألمانيا الشرعية للاحتلال. تكفّر المانيا عن عقدة ذنبها التاريخية بشراء كميات كبيرة من معدّات الدفاع الإسرائيلية.
في الفصل الخامس بعنوان "الدعوة الدائمة للهيمنة الإسرائيلية" يتحدث لوينشتاين عن أن جني الأموال وتبادل المصالح بين إسرائيل والعالم لا يتعلق بالمنافع المادية وحسب، بل بالتقارب الإيديولوجي المتعلق بكيفية التعامل مع السكان الغير مرغوب فيهم في مختلف أنحاء العالم.
يعرج لوينشتاين على تأثر حكومة مودي في الهند بهذا النموذج في تعاملها مع كشمير، حيث لا تخفي هذه الحكومة إعجابها بالاحتلال الإسرائيلي، فقال القنصل العالم للهند في نيويورك في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، إن أمامنا نموذج ناجح في الشرق الأوسط فلماذا لا نتبعه". وقد اتبعت هذه الحكومة النموذج نفسه أيضا في تهديمها لمنازل المسلمين بالجرافات في عام2022في ولاية أوتار براديش في صور تعيد إلى الذهن على الفور الجرافات الإسرائيلية في القدس الشرقية والضفة الغربية.
وعنون لوينشتاين الفصل السادس بـ "تقنيات المراقبة الجماعية الإسرائيلية هناك في دماغ هاتفك" حيث مكنت تكنولوجيا المراقبة اليوم أي بلد كان من تجنب قتل المتظاهرين وتآكل صورته لدى الرأي العالم العالمي ويقتبس عن محامي حقوق الإنسان الإسرائيلي إيتاي ماك أنك أصبحت قادرا اليوم على "تحديد وإيقاف نيلسون مانديلا القادم قبل أن يدرك حتى أنه نيسلون مانديلا".
يصل لوينشتاين في الفصل السابع الذي يحمل عنوان "وسائل التواصل الاجتماعي لا تحبّ الفلسطينيين" إلى هذه النتيجة بعد أن علم أن المحكمة العليا قد منحت الضوء الأخضر لوحدة الإنترنت الإسرائيلية في 2021 للاتصال سرا بشركات التواصل الاجتماعي وإزالة المنشورات التي لا تروقها دون استشارة المستخدم نفسه، ليرى الفلسطينيون كلماتهم ومنشوراتهم تتلاشى أمام أعينهم. وتحدّث لوينشتاين عن حالات محدّدة مثل المنشورات على تطبيق "انستغرام" المملوك لشركة "فيسبوك" حول المسجد الأقصى بعد اجتياحه عام 2021 حيث خلطت الخوارزميات بين عبارة المسجد الأقصى وجماعة كتائب شهداء الأقصى. وذكر حالات أخرى متعلقة باستهداف منشورات الأشخاص الذين يسوقون لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد شكلت وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية والإعلامية الإسرائيلية مجموعة تعمل على تطبيق على الانترنت يضم جيشا من الأشخاص الذين يشكلون حملات لمضايقة شركات وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التي تسمح بنشر محتوى ينتقد إسرائيل.
وينهي لوينشتاين كتابه بعبارات للصحفي اليساري المعروف جدعون ليفي بمثابة جرس إنذار لإسرائيل كتبها بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا داعيا حكومته لتعلم الدرس: "القوة العسكرية ليست كافية، ويستحيل علينا البقاء على قيد الحياة بمفردنا، فنحن بحاجة إلى دعم دولي حقيقي، وهو الشيء الذي لا يمكننا شراؤه بمجرد تطوير طائرات من دون طيار تسقط القنابل".
نشرت في مجلة المجلة