1 قراءة دقيقة
دراسة جديدة تحلّل ظاهرة اللجوء من منظور "سوسيولوجيا الانفعالات"

لاجئون سوريون يتحدثون إلى أصدقائهم وعائلاتهم عبر سياج داخل مركز إقامة مؤقت في كوكينوتريميثيا، على بعد حوالي 20 كيلومترًا خارج العاصمة القبرصية نيقوسيا في 5 نوفمبر 2019. AFP

عماد الأحمدآخر تحديث  


يدرس الباحث السوري باسم محمود، الأستاذ في جامعة غرناطة في إسبانيا، والحاصل على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة برلين الحرة، حقل سوسيولوجيا الانفعالات وسوسيولوجيا الهجرة وسوسيولوجيا القيم، وقد صدر كتابه "الانفعالات والانتماء في الهجرة القسرية: اللاجئون السوريون وطالبو اللجوء" (2022) بالإنكليزية عن دار "روتليدج" العريقة، منطلقا من نهج جديد في علم الاجتماع يقوم على دراسة سوسيولوجيا الانفعالات والعواطف التي يشعر بها اللاجئون والمهجرون قسريا دون التركيز فقط على الجانب العلاجي الذي يجعلنا نغضّ الطرف عن الأدوار الأخرى للانفعالات في حياتنا وحياة اللاجئين، محدّدا دراسة الحالة بحالة اللاجئين السوريين والمهجرين السوريين قسريا.هناك ثلاثة مناهج رئيسة في دراسة مجتمع المهجرين القسريين يغطيها القسم الأول من الكتاب بعنوان "دراسة عواطف المهجرين قسرا وانتمائهم" حيث يتحدث محمود، الباحث الزائر في مركز دراسات الهجرة في جامعة كوتش في إسطنبول، عن هذه الاتجاهات ويجملها في نهج دراسة اليوميات والنهج العلاجي الذي يركّز على اضطرابات ما بعد الصدمة، وهو المفهوم الذي يسبغه الباحثون مسبقا على حياة المهاجر القسري، ونهج الاستثناء، أي الأحداث المحدّدة والخاصة باللاجئ نفسه، إضافة إلى مقاربة المهاجرين قسرا تحت مظلة المهاجرين. ويحاول محمود الإجابة عن السؤال الأهم: كيف تتفاعل العواطف مع مشاعر الانتماء في الهجرة القسرية بسبب الحرب أو الديكتاتورية أو كلتيهما؟لذلك يدرس بعمق في هذا الفصل العواطف الأكثر صلة في هذا المجال، والمشاعر الأكثر أهمية لدى المهاجرين قسرا، ثم حلّل عملية بناء الانتماء ودور هذه المشاعر والعواطف فيها، وتأثير اختبار المهجر قسريا لهذه العواطف والمشاعر على المجتمع المضيف.

في القسم الثاني الذي سمّاه الباحث "الأمل المضطرب"، يحلّل نظرة علم النفس والطب النفسي لفكرة الأمل في حد ذاتها كحالة تحفيزية إيجابية، وبوصف الأمل عاطفة، وأخيرا بوصفه قوة أساسية في الحياة، ثم يميز بين ثقافة الكرامة وثقافة الشرف. ويضيف إلى هذا الفصل أيضا شهادات العديد من اللاجئين والمهجرين قسريا والعواطف والمشاعر والأمل في بناء حياة جديدة في السنوات الأولى في البلد المضيف. إذ يرى الباحث أن المهاجر القسري لا يعبر الحدود طلبا للهجرة في ذاتها، بل لأن الفرد لم يعد قادرا على بناء بيت، وهذا ما حصل في سوريا في أواخر 2013 وبدايات 2014. فقد ترك الناس بيوتهم إلى أماكن قريبة من قراهم ومدنهم في البداية في هروب موقت طلبا للأمان، ولكن عندما انتشر الدمار وعم جميع أرجاء البلاد لم يكن أمامهم سوى عبور الحدود. وقد أخذت الدول الأوروبية بعد عام أو أكثر تشعر بوطأة هذه الهجرة القسرية عليها وعلى مجتمعاتها، وساد خطاب جديد يتحدث عن أزمة اللاجئين.  

الإحباط والمخرج

في القسم الثالث الذي عنونه "الإحباط وولادة خطة هجرة نهائية"، يركز محمود على هذه المرحلة التي يطلق عليها سنوات الخيبة، فعندما قامت الانتفاضة في سوريا مر هؤلاء الأفراد بمرحلة سنوات الأمل في الحياة وانتقلوا إلى موقع آخر مجاور موقتا، لأن لديهم بعض الأمل في العودة، وعندما تلاشى هذا الأمل أصبح المخرج أو الحل الانتقال أو الهجرة النهائية، أو البيت النهائي. يأتي هذا كله نتيجة عوامل عدة أهمها البحث عن الأمان، ورفض المشاركة في الحرب أو الانضمام إلى الخدمة الإلزامية، ومحاولة الهروب من ظروف الحياة الصعبة، والبحث عن بيئة أكثر تسامحا، والبحث بالتأكيد عن مستقبل أفضل، والأهم من كل هذا وذاك، محاولة القدرة على التعامل مع المشاعر المتمثلة في الخوف والإحباط والحزن والقلق.


تتميز هذه المرحلة بفداحة الأضرار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفيزيولوجية، وتنامي الإحباط من السياسات الدولية ومن الظلم، والمشاعر المكثفة من الحنين والتمزق، إضافة إلى الضرر الديموغرافي الفادح والمتمثل في خسارة جيل الشباب الذين تبتلعهم الحرب. تكثفت هذه المرحلة في سوريا في سنوات ما بعد 2014. 

نهج العواطف والانفعالات

يتناول محمود المشاعر والعواطف أثناء رحلة الهجرة القسرية في القسم الرابع الذي جاء بعنوان "العواطف وتقديم الذات خلال الرحلة"، ويركز على الخوف الذي يشكل اللبنة الرئيسة في الممارسات العاطفية لهذه الشريحة من الأفراد التي تميل الى السلوكيات الدفاعية والوقائية وتسعى الى حماية نفسها وأسرها من الأذى النفسي والجسدي. تبدأ الرحلة العاطفية المضنية بتأمين التكاليف والضغط العاطفي الشديد في الوداع وخداع الذات والسلطات على الجانبين، التغلب على النقص اللغوي واستكشاف المكان الجديد ودور التكنولوجيا في جميع هذه المراحل.

يتحدّث هذا القسم بالتفصيل عن استراتيجيات محددة للتعامل مع المشاعر يطبقها المهاجرون قسرا على نحو أكثر كثافة من الناس العاديين في الظروف العادية، واستراتيجيات جديدة تظهرها هذه التجربة مثل المقارنة الدائمة بين حياتهم في مجتمعاتهم الأصلية والحياة في المجتمع المضيف، وتعلم اللغة؛ وبناء الألفة مع المكان، كما يتحكم المهاجرون قسرا بمشاعرهم، بل يديرونها، من خلال استحضار الماضي وجلبه إلى حياتهم الحالية الجديدة على نحو واعٍ أو لا واع، وتهدف كل هذه الاستراتيجيات إلى محاولة "الشعور وكأنك في بيتك- وطنك". 

الطريق إلى الانتماء

بعد أن يغطي محمود في الفصول السابقة العواطف خلال الرحلة ومرحلة "بناء الشعور بالبيت"، يتابع استراتيجيات الانتماء في القسم الخامس، "الطريق إلى الانتماء"، حيث يستعيد المهاجر القسري شعوره بوطنه من خلال الأطعمة التقليدية والبحث عن العلاقات الاجتماعية المشابهة لعلاقاته القديمة، ويشارك في الأنشطة الجماعية، ويضع ببساطة خططا محددة للاستقرار والحياة "هنا" في المجتمع الجديد.

(الصورة AFP) لاجئون سوريون ينتظرون ركوب حافلة في إسطنبول أثناء توجههم إلى القرى الحدودية في مقاطعة أدرنة في 28 فبراير 2020


أهم ما يساعد المهجر قسرا في هذه المرحلة، الشعور بالامتنان الذي يشعر به المهجّر تجاه المجتمع الجديد، ومعاملة هذه المجتمع بالمثل أيضا والانخراط في هذا المجتمع، وإعادة بناء حياة شبه طبيعية. ويسيطر على المهجّر أثناء كل هذا، الأمل بالحياة الجديدة على الرغم من ارتكاز هذا الأمل على العاطفة، مما يدفعه إلى تشكيل علاقة عاطفية أيضا، وقد لا تكون عملية تماما، مع المكان. إذ يتوقف الانتماء على العناصر العاطفية والعملية التي تضم الشعور بالأمان والترحيب وقضايا بنيوية أخرى قد تكون خارجة عن سيطرته تتعلق بالخطاب العام والسياسات الإعلامية والسياسات المختلفة في المجتمع الجديد، ومستوى الحرية وإمكان لمّ شمله مع أسرته، وفرص التعليم والعمل والسكن. لذلك لا يمكن للمهجّر بناء شعوره بالبيت دون اجتماع هذه العوامل.  

عشرية غيّرت دراسات الهجرة

يؤكد محمود في نهاية الكتاب أن أي باحث يتعرّض لمفهوم الهجرة في المنطقة العربية والحالة السورية تحديدا، لا بد أن يميز بين الهجرة ما قبل 2010والهجرة ما بعدها، لأن هذه العشرية مثلت قطيعة كبيرة في عواطف الناس وفي مشاعر الانتماء وفي الثقافة والهياكل الاجتماعية بأكملها. ولا بد من الانتباه إلى أن هذه التغيرات شملت الذين عاشوها أو راقبوها من الخارج. كما يشير إلى أن كتابه هذا من الدراسات القليلة في هذا الحقل التي تحلل كل هذه التفاعلات بعيدا من النهج العلاجي، وأن البحث يطور نظرية متوسطة المدى ترتكز على البيانات التجريبية، ولكنه على كل حال البحث الأول من نوعه الذي يركز على العواطف والانتماء في الهجرة القسرية في الحالة السورية بعد الانتفاضات العربية. يتضمن هذا البحث مفاهيم ومصطلحات مبتكرة شملت "الأمل في الحياة الجديدة في المكان"، و"الإدارة العاطفية الوقائية والدفاعية الهادفة"، وعلاقتها بعرض الماتريوشكا الذاتية، وخداع الذات حيث يقنع المهجر نفسه بأنه سيعود على الرغم من استحالة العودة وبناء البيت.

وهنا تكمن فرادة هذا الكتاب من خلال اعتماده نهج التجارب الحياتية وآراء الفاعلين الاجتماعيين (المهجرين قسريا) والابتعاد عن المقاربات الهيكلية أو الجزئية. يؤكد محمود أن دراسة هذا الموضوع من خلال محاولات التفسير الإيديولوجية المتعلقة بالثقافة الإسلامية لن تؤتي أي ثمار في هذا المجال، بل لا بد من دراسة أعمق للمشاعر والعواطف وارتباطها الوثيق بوسائل الإعلام والخطابات الدولية والسياسات العالمية المطبقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لذلك يدعو في الختام إلى المزيد من الربط بين دراسات الهجرة والسياسات الخارجية في العموم وعدم اقتصار هذا الربط على حماية الحدود واتجاهات الهجرة وحسب.


نشرت في مجلة المجلة