20 Oct
20Oct

عماد الأحمد 

كان الأدب يومًا كنبة المحلل النفسي الذي تستلقي عليها المجتمعات لتفضي لهذا المحلل بشذرات التواريخ البديلة والدقيقة بعيدًا عن السرديات الكبرى والصور العامة التي ترسمها المجتمعات عن أنفسها، ويبدو أن الأدب لا يزال يمارس الدور نفسه، إذ لا بد من أن يشتمل تعليق الكاتب والأديب، مهما بدا منتميًا أو متأثرًا بالدعاية الحربية، على طبقة أو طبقتين أعمق من تعليقات السياسيين العملية المتقشّفة المضبوطة المدروسة التي تعمل كترس في ماكينة مؤسسات تسعى للمواقف الموحدة التي ترسل رسائل مباشرة ومحددة. 

لا نعرف الكثير عن (الأدب المعادي) إن صح التعبير، رغم بداهة الحكمة الموروثة لمعرفة عدوك، لأن الحاجز النفسي لدينا يجعلنا نمسك أنفسنا متلبّسين بتناسي التاريخ والحروب والمواقف الحامية التي اقتنعنا بها ولا نريد أن نغيرها لنحمي نزاهتنا. 

سألت العديد من وسائل الإعلام الغربية الأدباء الإسرائيليين عن آرائهم بعملية (طوفان الأقصى) وأبدى العديد من هؤلاء الأدباء ردود فعل مهمة، رغم أن بعضها لا يتجاوز ردود أفعال الناس العاديين أو حتى السياسيين المتطرفين، لأن الضربة ما تزال طازجة.


كوابيس طفولتي تحققت   

 قالت الكاتبة الروائية الإسرائيلية زيرويا شاليف، واحدة من أكثر الكتّاب مبيعًا في إسرائيل، والمولودة عام 1959 في كيبوتس طبريا الذي لا تزال تعيش فيه، والحاصلة على جائزة كورين الدولية للكتاب في ألمانيا في 2001، لجريدة "لو موند" الفرنسية، إن أسوأ كوابيس طفولتها قد تحقق بعد الهجمات الأخيرة. لطالما حلمت شاليف بأن الأعداء سوف يأتون إلى قريتها ويطلقون النار في كل الأنحاء ويقتلون والدتها ويختطفون والدها، وأنها تتظاهر مع أخيها بالموت، ولكنهم يتمكنون من قتله في نهاية الأمر، فتستيقظ على صوت أمها ليطمئنها أنها تحلم. وتحدّثت شاليف عن الصور المرعبة التي بثّتها شاشات التلفاز، حيث "اختطفوا كبار السن والأمهات وأطفالهم، وعرضوهم نصف عراة في شوارع غزة، مذلولين ومكبلي الأيدي"، وقالت إن هذه الصور تذكر بأزمنة الماضي اليهودي المؤلم، وأنها قد أعادت إلى ذهنها كل القصص المرعبة التي نشأت على سماعها من جدّتها التي نجت من المذابح في روسيا.


الفشل الذريع   

 يشاي ساريد المحامي المولود في تل أبيب في 1965، والروائي الحائز على العديد من الجوائز والداعم لحل الدولتين يوضّح لموقع "دويتشه فيله": "لم يحدث شيء مثل هذا من قبل.. هذه جرائم ضد الإنسانية". ويحلل ساريد نفسية شعبه والعوامل الخارجية التي تؤثر على حياتهم اليومية والعوامل الداخلية التي تشكل نفسياتهم: "إن العيش تحت تهديد الحرب واستخدام العنف والخوف، جزء أساسي من تركيبتنا النفسية ومن روحنا الوطنية وشخصياتنا". فاز ساريد بجائزة "ليفي أشكول" الأدبية وتبرع بقيمة الجائزة لمنظمة تضم عائلات فلسطينية وإسرائيلية فقدت أعزاءها، ولكنه يعترف أن هذه المنظمات أو هذه المبادرات "مجرد جزيرة صغيرة في خضم بحر من الأعمال العدائية والعنف والحرب". وعلى الصعيد السياسي أكد ساريد أنه "لا بد من الثقة بالجانب الآخر"، ووضع يده على الجرح منتقدًا سياسة نتنياهو العسكرية والسياسية واصفًا إياها بـ"الفشل الذريع" لينتهي كما الجميع هناك اليوم إلى أنه: "علينا الآن أن ندافع عن أنفسنا".


البحث عن أنفسنا رغم الكارثة   

أما الكاتبة الإسرائيلية ليزي دورون، التي لا تحظى بشعبية كبيرة لدى الرؤوس الحامية، بسبب سعيها الدائم للسلام وإيجاد نقاط مشتركة للتفاهم والحوار، وإجراء مقابلات مع الجانب الآخر، ودعواتها المستمرة للتفاهم السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فما تزال تعتقد أن إسرائيل أخطأت ولزمن طويل بعدم الانفتاح على "جيرانها" الفلسطينيين، وقد استنكرت دورون في حديث لموقع "دويتشه فيله" سياسة الحكومة الإسرائيلية وسيطرة جماعات الضغط اليمينية والأرثوذكسية المتطرفة على السياسة في البلاد، مما قوض جهودًا طويلة امتدت لسنين للتغلب على العوائق أمام الحوار ومحاولة إيجاد حلول مقبولة. وأدانت دورون بصراحة مفهوم "شعب الله المختار" كما أدانت هجمات حماس وأعلنت حزنها على جميع الضحايا، ودعت مجددًا للحوار مع الفلسطينيين لدفع جميع الأطراف لرؤية الآخر "كإنسان" وإيجاد الأطراف والأفراد والمؤسسات المستعدة للتواصل و"إلا فإننا محكومون بالقتال المستمر إلى الأبد". وتؤكد دورون أنه هناك حاجة إلى المزيد من الإنسانية وتنصح شعبها وحكومتها قائلة: "إننا بحاجة إلى البحث عن أنفسنا رغم الكارثة".


حرب وجودية وفنٌ مجمّد 

أتغار كيريت، الأستاذ الجامعي والكاتب والمخرج والمنتج ونجم عالم الأدب الإسرائيلي المعاصر الذي نشرت كتبه بـ25 لغة حول العالم، وصاحب العبارة الشهيرة في إحدى قصصه القصيرة: "ما الفائدة من غسل الصحون إذا كان الصاروخ القادم سوف يصيبنا في أي لحظة". قال كيريت في مقابلة مع مجلة "لو بوان" الفرنسية الأسبوعية معلقًا على الهجمات الأخيرة إنه "يعيش في حالة من الحرب الوجودية" وأضاف كيريت أنه في البداية لم يدرك حجم الهجمات فقد تعرض لمثلها أكثر من 30 مرة في حياته، وقد بلغ السادسة والخمسين من عمره، ولكنه علم لاحقًا بمقتل ابن أحد طلابه. أكد كيريت بوضوح على أن الجيش والحكومة مسؤولان عن كل هذا، وأنه من السخف تخيُّل أن تقبل هذه الحكومة تحمّلَ أي نوع من المسؤولية على ما جرى. لقد فشلت هذه الحكومة في حماية المواطنين من الهجمات، ولكنهم في الوقت نفسه يعتبرون حتى أخفت الأصوات التي تطالب بمحاسبتهم مجرد محتجين، أو حتى كما لو كانوا خونة لإسرائيل. لقد طلبت الحكومة المتشددة، التي تريد لأسباب دينية حظر وسائط النقل يوم السبت، من جنود الاحتياط الالتحاق الفوري، ولكن الجنود لم يتمكنوا من ذلك لأن القطارات لم تعمل حتى الساعة الخامسة مساء. يقول كيريت إن الكراهية التي يواجهها تأتي من اليمين الإسرائيلي بسبب آرائه اليسارية، ويرى أن كلًا من الحكومة الإسرائيلية والحكومات الفلسطينية عبارة عن مرآة مشوهة لشعبها. ولا يعتقد أن كل فلسطيني هو عنصر من حماس وأن كل إسرائيلي هو نتنياهو، "ولكنني بصراحة لم أتصور يومًا مستوى قسوة كهذا، كما لم أتصور مدى فشل كهذا في النظام.. ولكن نتنياهو لم يرغب بتدمير حماس لأنها كانت تشكل توازنًا مع السلطة الفلسطينية"، ويتابع كيريت أنه في جميع الأحوال وفي ظل موقف عصيب ومليء بالتطرف كما هو الوضع اليوم "يتجمّد أي دور للفن".


لا يمكننا محو غزة أو الفلسطينيين من الوجود 

يعيش الروائي الإسرائيلي عساف غافرون في مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية وقد حازت روايته "قمة التل" (2014) على جائزة برنشتاين الأدبية المرموقة، وقد انتقد غافرون في حديث لموقع "دويتشه فيله" سياسات الحكومة موضحًا أن الإصلاحات القضائية والاحتجاجات ضدها قد أضعفت الجيش، وأن حماس أدركت ذلك جيدًا. ويؤكد غافرون على أن ما أوصل الجميع إلى هذا الوضع هو تجاهل نتنياهو وحكومته للفلسطينيين وتشجيعهم غير المسبوق على الاستيطان ظنًا منهم أن هذا سوف يمكنهم من احتواء المشكلة الفلسطينية بأكملها، ولكن هذا المفهوم الذي تبنّته هذه الأطراف "قد أنهار كليًا اليوم". يبحث غافرون عن المزيد من أسباب التفاؤل رغم الصدمة الكبيرة التي تعيشها إسرائيل حاليًا متفهمًا أن رد الفعل المباشر من الحكومة بالطبع هو الاتجاه المستعر للحرب والانتقام والقتل، ولكنه يأمل أنه بعد أن يهدأ الغبار لا بد أن يدرك الجميع أن دائرة الانتقام والعنف عبارة عن حلقة مفرغة إذ "لا يمكننا محو غزة أو الفلسطينيين من الوجود".


أسبرطة وأثينا في الوقت نفسه    

كتب ديفيد غروسمان، الكاتب الإسرائيلي الفائز بجائزة مان بوكر الدولية في 2017، في جريدة "فايننشال تايمز" الأميركية مقالًا عميقًا عبر فيه عن مشاعره بعد الهجمات، وضمّنه تحليله للوضع الذي أدى بدولته إلى هذا الحال من الضعف، مشبّهًا مسرحيات نتنياهو الهزلية بتصرفات تشاوشيسكو، حيث ادعى بصلف قوة إسرائيل واستعدادها لمواجهة أي تهديد كان ومن أي طرف، وشوّه سمعة الاحتجاجات التي امتدت للأشهر التسعة الماضية ووصمها بالخيانة. ولكن غروسمان الذي اعترف بأن الاحتلال جريمة، وصف هجمات حماس بالجريمة الأسوأ، وتردّد بوصفهم "بالحيوانات"، ولكنه أكد على أنهم قد فقدوا الكثير من إنسانيتهم. رأى غروسمان أن السلام الذي سعى إليه نتنياهو محاولًا القفز فوق أس الصراع الحقيقي هو سلام الأثرياء. وإذا كان هناك من درس أثبتته الأيام الماضية فهو استحالة الشروع في إيجاد حل لمأساة الشرق الأوسط دون أن تقدم جميع الأطراف حلًا يخفّف من معاناة الفلسطينيين. وصف غروسمان حال الجميع في إسرائيل في أنهم كالسائرين في نومهم حيث يتسرب الخوف هناك إلى أناس يختبرون احتمال الهزيمة المطلقة المرعب ولأول مرة منذ حرب 1973. ويستشرف غروسمان المستقبل فيرى أن إسرائيل سوف تغدو أكثر يمينية وعنصرية، وأن هجمات أكتوبر هذه سوف تؤطر الهوية والشخصية الإسرائيلية، وسوف تزيد من الاستقطاب والانقسام الداخلي، وسوف تعزز الأحكام المسبقة والصور النمطية الأكثر تطرفًا والأكثر دفعًا باتجاه الكراهية. ويعلن غروسمان تلاشي مجرد احتمال حل الدولة الواحدة ثنائية القومية إلى غير رجعة، فكيف بإسرائيل وفلسطين اللتين دمرتهما الحروب العبثية وغير القادرتين على أن تكونا أبناء عمومة، أن تتحولا إلى توأمين ملتصقين. لقد أوضحت الهجمات برأي غروسمان عمق الكراهية تجاه إسرائيل مما سوف يدفعها على الدوام للنوم بأعين مفتوحة ولأن تكون كلًا من أثينا وإسبرطة في الوقت نفسه.



تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.