يندرج المقال في ملف عن الخوف أعده وأشرف عليه تمّام الهنيدي، المحرر الضيف في رصيف22 لشهر حزيران/يونيو
يرى المفكّر السوري عزيز العظمة في حوارٍ أجراهُ معه الكاتب ياسين الحاج صالح أن من يثقبون رؤوس أصابعهم بالدبابيس في مشاركتهم بتجديد البيعة، لا يكتفون بكونهم خرافاً، بل إنهم علاوة على ذلك يصادقون على "خروفيتهم" هذه بدمائهم. نبدو كسوريين، والحال هذه، خرافاً تخافُ الذّبح، بل ونعرف تماماً أن الإنسان بالون دمٍ ينتظر ما يفقَأَه لينتخب، أو يموت. لا بد إذاً أن يؤمن السوريون (ومن في حكمهم) أنهم خراف منذ صغرهم، وإذا قُدّرت لهم النجاة ريثما يصلون إلى مرحلة الوعي، فسوف يحظون بفرصة أن يصادقوا بعدها على خروفيّتهم، وبدَمِهم.
ألم تكفِ الشاعر محمد الماغوط لطمة واحدة خلال التحقيق معه في شبابه لكي يجمع احتياطياً من الخوف يفوق احتياطيّ المملكة العربية السعودية وفنزويلا من النفط؟ لا يحتاج السوريون سوى صحيفة أعمال الطالب (يا له من اسم) لتأخذ مفاصلهم بالنقيق الدجاجيّ، ويدخلوا فعليّاً يوم الحساب، ويعرِفوا أن الآية الكريمة "سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا" ليست باطلاً.
كان صوت الرئيس أشبه بصوت الآلهة، حتى عندما يحاول بثّ الطمأنينة في نقوس المعلمين في شارة برنامج "بناة الأجيال" المخصّص لهم، فـ"المعلمون" وفقاً له، "بناة حقيقيون لأنهم يبنون الإنسان، والإنسان" وفقاً له أيضاً "هو غاية الحياة، وهو منطلق الحياة".كان صوته "الإسرافيليّ" المخيف يشي بأنه قادرٌ على فصفصةِ عظامِ أيّ معلّمٍ كان، والخوف قرحةٌ اصطناعيةٌ جاهزةٌ للصراخ في أي لحظة، فيما يحتاجُ المواطن العادي إلى طنٍّ من القهوة الصباحية ومعجونِ الطماطم والفلفل الحار لكي تتشكل في رأس معدته قرحة طبيعية مفهومة ومحترمة.
كان الجلاءُ المدرسيّ يُسمّى في سوريا “صحيفة أعمالِ الطالب” وكانت تتوسّطهُ غالباً صورة مخيفة لحافظِ الأسد ينظرُ بعينين تٌشبهان عينيّ ميدوزا في الأسطورة اليونانية التي تُحوِّلُ كل ما يقع نظرها عليه إلى حجر
يشقّ الخوف طريقه بثقةٍ إلى بيئته الطبيعية، نقيّ العظام، الذي ظننا يوماً أن لا شيء قادر على الوصول إليه سوى البرد، والخوف برد، ورطةُ أحاسيس متداخلة تلتفُّ على نحوٍ شائكٍ حول عصب المعدة.
حملتُ جواز سفري على كفّي من مطار الشهيد باسل الأسد في اللاذقية، وما إن اقتربتُ من نقطة التفتيش حتّى أطلّت القرحة برأسها، رغم أنني وضّبتُ كل محتويات الحقيبة بيديّ، وكسرتُ خاطر أمي بالتخلي عن المكدوس واللبنة والعدس والبرغل والشنكليش، وعلى حد علمي ليس في الحقيبة سوى الملابس، لكنّ بطني كاد يدقُّ بعمودي الفقري عندما مرّروا الحقيبة داخل جهاز السكانر،فتجمّدتْ.كنت في مصر الحنونة الطيبة حين قرر الجيش أن يتسلّم مهمة حفظ الأمن (أو فرضِهِ) من الشرطة المتكاسلة. كنت عائداً من النادي اليوناني ليلاً في سيارة صديقي. أوقفنا جمعٌ من الكاكي المقنّعين في مصر الطحين والفلاحين وأنزلونا من السيارة، فتشوها وفتشونا، فتحوا علب السجائر وفردوها على الأرض سيجارة سيجارة، ثمّ ودعونا ببعض الشتائم. كانت مصر بأكملها ممددة على الأسفلت مكلبشة وجهُها إلى الأرض والمقنعون الكاكي يدوسون على ظهرها، فجلس صديقي أمام المقودِ وشغل السيارة وصرخ: "اركب، اركب"،
غادرتُ أمّ الدنيا في بدايات العام 2015 متجهاً إلى إسطنبول، وفي شارع الاستقلال فائقِ الازدحام الممطوط بين ميدانِ تقسيم والأحياء المحيطة ببرج غلطة تناهى إلى مسمعي صوتٌ سوريٌ خائفٌ يصرخ:"الشرطة، اركضي يا فاطمة!".فجأةً عادت قرحَتي العزيزة وأطلّت برأسِها، فركضت هلعاً من فوري، ولخمسة أمتار بدت طويلة جداً، تخيّلتُ نفسي خلالها مشبوحاً على الكرسي الألماني، قبل أن تشدَّني صديقتي من ياقتي لتهدِّئ من روعي، فيزداد فزعي رطلين، إلى أن سمعتُ صراخها:"أنت مش فاطمة... أنت مش فاطمة!"،
فتجمّدتْ.
أوصلني التاكسي إلى السكن الجامعي المخصّص لطلاب جامعة الإمام الخميني الدولية في قزوين الإيرانية الشقيقة، ولم تكفِ أوراق التومانات المكدّسة في جيبي لدفع الأجرة، فانتظرني السائق في الخارج لآتي ببقية المبلغ، غيرتُ ملابسي وارتديتُ شورتاً "برمودياً" طويلاً يخفي عورتي كاملة (على المذاهب العشرة)، وتوجهتُ إلى البوابة لأعطي الرجل نقوده وتوماناته الصفراء فمنعني الحارسُ من الخروج وأخذ يصرخ في وجهي بفارسيةٍ انتفتْ عنها المطمطاتُ الفرنسية، فتلاشت اللغة بأكملها من عقلي، ولم أعد أفهمُ أيّة كلمة، فأخذتُ أجدّفُ بالعربيّة والإنكليزيّة، وأشتم بكلّ اللهجات التي أعرفها، علّ إحدى هذه اللغات واللهجات تصيب هدفها، إذ يشفى غليلك عندما يفهم مشتومُك شتيمته، والنتيجة: تنادى عليَّ الحرس،
فتجمّدتْ.
بعد أن تأكد حارسُ الحدود الدانماركي (يا لهذا الوصف كم هو قميء ومقيت) أن أوراقي الأوروبية ليست مزورة، لم يقبل عقله الإلكتروني ذلك، فكيف لرجل أسمر رثِّ الملابس أن يحمل أوراقاً أوروبية صالحة ويأتي من إسطنبول مباشرة إلى الدنمارك بشكلٍ طبيعي؟ بتُّ ليلتي على كرسي في المطار ريثما يعيدني الحارسُ المُرتابُ إلى حيث أنتمي، أولئك التُّرك الذين يشبهونني، ثمّ أيقظني في الصباح ليبلغني أن طائرتي ستقلع إلى إسطنبول خلال دقائق. أمَرني بالتحرك، فاتجهتُ إلى دورات المياه لغسل وجهي، غير أنّ حارس الحدودِ والحمّاماتِ واللاجئين السمر انتفض وقال بحزمٍ مريب:
"لا، لا، لا تغسل وجهك!"،
فاستعنتُ بجيناتي الحمصية لتخفيف حدة الموقف وبادرته مداعباً:
"لماذا يا برور (Bror باللغتين الدانماركية والسويدية تعني أخ)؟ هل يمثّلُ غسل الوجوه صباحاً مشكلة في كوبنهاغن؟ هل تغسلونها عند الظهر فقط، وعلى نحو جماعي، أم أن مملكة الدنمارك تعيش صباحاتها دون أن تغسل وجهها، ثم تتحرّك الأُمَّة بشكلٍ مهيبٍ ومنظّمٍ في تمام الساعة الثانية بعد الظهر لتغسل وجهها في أرخبيل البلطيق المقدّس؟".
كيف لأسمر أشعثَ رثٍّ كهذا أن يحمل أوراقاً قانونية تماماً... "لي أكثرُ من نقطة تجمّد" في مجاز الخط الثالث
لم يسمح لي طبعاً بتتمة الدعابة حتى النهاية، ومدّ يده إلى الصاعق الكهربائيّ المتدلي على خصره، وامتشقه كبطل "ستار وورز"، فالتمعَ في الهواء مرتين مُصدراً أزيزاً مرعباً،
فتجمّدتْ.
شددتُ الرِّحال من ميلانو متجهاً إلى ألمانيا بالحافلة "الخضراء" هذه المرة تجنّباً لحرّاس الحدود الذين ظننتهم في المطارات فحسب، فخابَ ظنّي عندما وصلتُ، وأسعدني زماني بملاقاة حرس الحدود البرية (يا لهذا الوصف كم هو قميء ومقيت أيضاً)، وقد بدا أنهم بانتظاري شخصياً فانتقوني من بين جميع ركّاب الحافلة، وقاموا باستضافتي بينهم، وبعد ساعة من التحقيق والتمحيص، ظلّتْ نظرة الشك معلقةً على وجوههم، فكيف لأسمر أشعثَ رثٍّ كهذا أن يحمل أوراقاً قانونية تماماً، ويصرّحَ لحرس الحدود أنه ذاهب إلى ألمانيا للسياحة والكريسماس؟
وبعد سؤالي عمّا أحملُه من المال قال الجندي المراهق:"لا، هذا لا يكفيك لعشرة أيام".فأجبت: "إذاً ليومين".فقال: "لا، قد قُلتَ عشرة أيام".فرددتُ: "حصل تغيير في الخطط، وقد وجدت أن يومين يكفيان لمعرفة ألمانيا بدقّة، غربيّها وشرقيّها". عادت الدعابة الحمصية اللعينة لتضخَّ التهوّر في دمي:"مع أن هذه الساعة التي قضيتها بينكم حتى الآن تُغني حتّى عن اليومين!".
هل يمثّلُ غسل الوجوه صباحاً مشكلة في كوبنهاغن؟ هل تعيش مملكة الدنمارك صباحاتها دون أن تغسل وجهها، ثم تتحرّك الأُمَّة بشكلٍ مهيبٍ ومنظّمٍ في تمام الساعة الثانية بعد الظهر لتغسل وجهها في أرخبيل البلطيق المقدّس؟
مدّ الجنود أيديهم إلى أي شيء كان معلقاً على خصورهم، فمنهم من حرّكتْ دعابتي يده نحو الصاعق الكهربائي الذي يؤلمُ ولا يقتل، للأسف، ومنهم إلى المسدس، وكاد آخرُ يكسر القلم الذي في يده، بينما أوشك الأخير أن يكسر التابلت فائق التطور الذي عرف من خلاله أسماء أطفال صديقي الذي صرّحتُ أنني سأبيت عنده،
فتجمّدتْ.
بعد قضاء أسبوع سياحي في بودابست التي كانت شيوعيةً يوماً، وكانت عاصمة هنغاريا، التي يبدو أن اسمها لسبب ما صار المجر، أخطأتُ مجدداً وركبت الحافلة قاصداً ليالي الأنس في فيينا، وفي الطريق ارتفع معدل ضربات قلبي فجأة. كنت متجمداً لمدة ساعتين خلتا من أيّ شيء يستدعي الهلع، سوى خفقان مضطربٍ في القلب دفعني للطلب من صديقي الذي سوف يستضيفني أن يبقى معي على الخط، فقبل ساخراً، وظلّ يطلقُ الدعابات بين فينة وأخرى قائلاً:"سمّعنا صوتك لنعرف إنك لسا عايش".لكنه وعلى مشارف فيينا، ولمّا تأخرَ ردّي لحظةً أضاف: "شو صعقوك؟!"،
فتجمّدت.