فقدَتِ الهندُ قبلَ أيامٍ واحداً من أبرز شعرائها ومثقفيها التقدميين، مانغاليش دبرال (1948-2020) حيث رحل في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر الجاري بسكتة قلبية أثناء وجوده في مستشفى معهد العلوم الطبية في نيودلهي للعلاج من فيروس كورونا الذي حصد في هذه السنة الكثير من الأرواح المبدعة.
صديقه منذ أكثر من أربعة عقود، الشاعر والناشر أسد زيدي، وصف الخسارة بقوله: "تمكّن بأسلوبه البسيط، من ضخ السحر في الشعر الهندي الذي طوّر لغته إلى حد كبير. إنها خسارة كبيرة للأدب الهندي، والتي تعد الخسارة الأكبر برأيي بعد وفاة الشاعر راغوفير ساهاي". ينتمي الشاعر الهندي مانغاليش دبرال إلى ذلك النوع من الأدباء الذي يقارب المخلوقات الانسانية من زاوية العطف الذي لا ينزلق الى الاشمئزاز، وهو ما يميز الموهبة الحقيقية عن الموهبة المتعالية، أو ما يمكن أن نصطلح عليه جدلاً بالأدب الطبي التشريحي، الذي تفصله شعرة رفيعة عن الأدب الحقيقي الذي يميز المخلوقات التي تشعر حقاً، عن غيرها من آلات التحليل التي تجلد الإنسان بداخل الشخصيات الأدبية وتتعاطى معه على أنه ثور حلبة أو فأر تجارب.
مانغاليش دبرال شاعر يحب الإنسان، ذلك المخلوق البائس الذي يعيش في هذه "الماتريكس" دون أن يدرك جدواها، وينتمي هذا العطف إلى مرحلة باتت قديمة اليوم في عالم الأدب الذي يتحدث عن مشاعر المسامير والأخشاب والآلات والجحور والعناكب. يقول دبرال في إحدى مقالاته:
"ما زلتُ أعتقد أن الماركسية واحدة من أكثر الأيديولوجيات إنسانيّةً بعد البوذيّة، ويمكن أن نطلق على كليهما اسم فلسفة الحزن البشري" هذا هو دبرال، ذلك الماركسي الذي جاء من قريته الجبليّة النائيةٍ كافالباني في إقليم أوتاراخاند، إلى دلهي وفهمها وأحبها، وكتب عنها ككل المهاجرين الداخليين في الستينيات من القرن الماضي حيث يقول في قصيدته دلهي 1: "أرى أشخاصاً غريبين في هذه المدينة. تُشبه وجوههم وجوه أعدائي. يتبخترون في سياراتهم الفاخرة باتجاه مطار أنديرا غاندي الدولي".
والذي أحب في الوقت نفسه أهل دلهي وحزن عليهم وتعاطف مع مصائبهم التي تبدو صغيرة في عيني هذا العصر الجائر فيقول في القصيدة نفسها:
"مريضُ قلبٍ أمام الكومبيوتر يفكّر: كيف يمكنني علاج البلاد؟ رجلٌ شجاع يبكي في القسم الخلفي لمركز تجاري فاخر، أصابه داء الشجاعة"
عندما دلفتُ إلى مصر وقال لي أحد المسرحيين المصريين الجميلين إن سوريا مثل مصر في الستينيات، قلت له إن مصر أشبه بباكستان، أو الهند بالأحرى، أمة ضخمة تحاول أن تفتخر بالفراعنة وتدعي اليونانية وتعيش اليوميات الباكستانية الهندية بالميلي متر. هكذا رأيت مصر بعينيّ، ورأيتُ دلهي بعيني مانغاليش دبرال الحنونتين.
وصف دبرال بلاده المترامية الأطراف على أنها: "بلادٌ تطفو على أعمدةِ من الراجا" وهي القطعة الموسيقية الشعبية التي تتألف من عدة نغمات تتكرر تباعاً، ويشتق اسم كل منها من الحالة النفسية التي تريد الإيحاء بها، والتي تذهب الأساطير الهندية إلى أن لها تأثيراً وقوة روحانية. وكيف يمكن أن تصف محيطاً هائجاً بالبشر والمشاعر والآلام مثل الهند بغير هذا الوصف.
كان مانغاليش دبرال ينقّي حبات طفولته حبة حبة، ليعيش عليها شعرياً وإنسانياً ليكتب نصوصاً كونية قادرة على لمس شغاف قلب أي قارئ في الكرة الأرضية تصادَفَ أن له أباً وأماً وجداً وجدة. كتب دبرال وكأنه يكتب عن آبائنا جميعاً عن صورة والده المعلقة على الحائط:
"لا يسعل أبي في الصورة
ولا يتوتّر
لا يشتكي من وجع يديه ورجليه
لا ينحني ولا يساوم .. وقف أبي يوماً أمام صورته
وقال
مثل معلِّم يشرح الخريطة لتلاميذه:
لا أُشبه صورتي"
وكتب عن قلق أمه الذي يماثل قلق أمهاتنا جميعاً من التقاط الصور لهن:
"كلّما حانت الفرصة لالتقاط صورة تبحث أُمّي عن شيء مفقود
أو تذهب لجلب الحطب أو العشب أو الماء" وفي قصيدة أخرى يتحدث عن أمه أيضاً: "لطالما دلّتني أُمي أينَ خلعتُ ثيابي
أين تركتُ أشيائي أو أخفيتُها.
ولطالما وجدتُها وغمرتني السعادة."
أما عن جده الذي كان "مثل سحابة مثقلة بالماء"، والذي كان باحثاً في الأيورفيدا والسنسكريتيّة أيضاً وجامعاً للمصطلحات الشعرية والعبارات المحكية يقول دبرال:
"قالت أُمي
عندما تغطّون في النوم محاطين
بمخلوقات الليل الغريبة
يبقى جدّكم يقظاً في الصورة ليحرسكم"
نال دبرال جائزة "ساهيتا أكاديمي" التي تمنحها الأكاديمية القومية للآداب في الهند في عام 2000 عن مجموعته الشعرية "ما نراه" Ham Jo Dekhte Hain. والتي أعادها بعد انتقاداته العلنية للحكومة الحالية في عام 2015 احتجاجاً على مناخ التعصب المتنامي في البلاد والتي ساهمت الحكومة بجزء كبير منه.
استوحى دبرال قصيدته "تاناشاهي" (2014) من شخصية رئيس الورزاء ناريندرا مودي ومن خطبه، واستوحى أيضاً ملابسه في قصيدة (حكاية شعبية)، والتي تتحدث عن ملك متأنق يكره الغبار، مهووس بملابسه التي يغيرها يومياً عدة مرات. ثم تُدخلُ القصيدة ملابسَ هذا الملك التاريخ ليُعرفَ عصرُه بعصرِ الملابس المتّسخة.
عشرات الشهادات الحارّة من أبرز شعراء وكتّاب الهند ومثقفيها قيلت في رحيل الشاعر، ولعل ما كتبته الصحفية والكاتبة ميرنال باندي يلخص الجانب الإنساني الذي طالما أضاء شعره: "كان رجلاً قصير القامة بنظارات سميكة، ولكنه كان يحمل العالم كله بداخله. يمّثل دبرال أحد أكثر العقول الثاقبة في اللغة الهندية، إنسان لا يمكن أن تتزعزع معتقداته، وكاتب صريح في كتاباته كل الصراحة، ولكنه كان خجولاً للغاية عندما تقابله شخصيًا. لقد بقي دبرال صارمًا للغاية فيما يتعلق بالحفاظ على المبادئ الأساسية لكيف تكون بشراً حقيقياً".