12 Jan
12Jan

انتظار معرفة جديدة، فتحٌ بعد كدٍ وإرهاقٍ وعزلةٍ وجهدٍ مكثّف للفهم، للتواصل مع سقف العالم والطوابق الأخرى التي تعلوه

عماد الأحمد - رصيف ٢٢ -٣١ أكتوبر ٢٠٢٢

 تبدو عبارة "العالم كغرفة انتظار" التي جاءت عنواناً لألبوم فرقة White Denim الذي أصدرته فرقة الروك الأمريكية الشهيرة  عام 2020، في عزّ فترة جائحة كوفيد 19، عبارةً جامعة تلخّص ما تريد البشرية قوله عن الانتظار، وعن العالم أيضاً.

تقول إحدى أغاني الألبوم التي حملت عنوان Slow Death:في أقصى حالات الوضوحلم أتوقّع ما حصلولكن عقلي الساكن هذا،والذي يهدر مثل ثلاجة، لن يتوقف عن الجرييا له من موت بطيء!سُئلَ الفيلسوف الألماني هايدغر في حوار مع "ديرشبيغل": "هل تعتقد أنه يمكننا استدعاء هذا الإله من خلال التفكير؟"، فقال: "لا نستطيع استدعاءه من خلال التفكير. في أفضل الأحوال نستطيع تحضير الجاهزية للانتظار… وهذا التحضير (مكرّس) لجاهزية حفاظ المرء على ذاته منفتحاً لوصولِ أو غيابِ الإله".إذاً فالسبيل أن نحافظ على ذاتك حتى وصوله أو غيابه. كذا بحكمة الأنبياء والفلاسفة، خياران قد يبدوان بسيطين للغاية.هناك فلسفة للانتظار إذاً. وليس علينا أن نجفل على الإطلاق من هذا، فلكل شيء فلسفة ما على ما يبدو، حتى ألكسندر دوغين، الذي طور الفكرة الأوراسية وأهداها لـ"المهدي المنتظر" الثلجي فلاديمير بوتين!     

لنملأ دقائق الانتظار بكل ما يمكننا أن نجترحه من ادّعاء. ادّعاء أننا على خير ما يرام، بطموحاتنا وآمالنا التي تقول كل شيء دون أن تفصح عن توتّرنا الوجودي

فلنملأ دقائق الانتظار بكل ما يمكننا أن نجترحه من ادّعاء. ادّعاء أننا على خير ما يرام، بطموحاتنا وآمالنا التي تقول كل شيء دون أن تفصح عن توتّرنا الوجودي خلال هذا الانتظار الممض.

"يا له من موت بطيء"

الانتظار معرفة جديدة، فتحٌ بعد كدٍ وإرهاقٍ وعزلةٍ وجهدٍ مكثّف للفهم، للتواصل مع سقف العالم والطوابق الأخرى التي تعلوه. "النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص"، كما يقول الراغب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن"، ويقترب هذا من قول هايدغر أيضاً في محاضرة ألقاها عام 1934 حول الانتظار Warten: "الانتظار مبني على الصبر المفهومي. الانتظار هو توقُّع معنى جديد، لا مجرّد معنى متجدّد. انبثاقٌ لا مثيل له من قبل ولا من بعد، لا تكرار له، فريد ومتميّز، لأنه خَلقٌ جديد من العطاء الأصلي". الانتظار خلّاق، وهو الخطوةُ الأولى قبل كل شيء. كل خطوةٍ قبلها انتظارٌ وبعدها انتظار. 

المسيح قد خيب آمال الكثيرين في ذلك الوقت عندما ترك نفسه للصلب والموت

ولكن هل الذات العليا التي لا يمرّ عليها الزمن العادي، تنتظر كسائر الأشياء؟ هل كان الخالق في انتظار الخلق لتتحقق في ذاته صفةُ الخالق؟ هل تنسحب مزايا الزمن على اللا زمنيّ، الإجابة الكلاسيكية على الأرجح: لا!يعني هايدغر في فلسفة الانتظار: التفكير في القادم المُبهم والاستعداد لنتيجته، وهو انتظارٌ يختلف جذرياً عن الانتظار عند أصحاب النتائج المسبقة.يقول فراس السواح إن: "المسيح قد خيب آمال الكثيرين في ذلك الوقت عندما ترك نفسه للصلب والموت، لأنّ الناس ليسوا بعد على مرحلة تؤهلهم للدخول في ملكوت الربّ، وإن عليهم أن يتطهروا قبل أن يعود المسيح إليهم مرة ثانية". فالانتظار هنا انتظارُ متأمّلٍ يعلم أن النقص فيه، وأنه غير مؤهَّلٍ لملكوت الرَّبّ، ولا بد من شروط معينة ينبغي أن تتحقق، ومن ثمَّ يمكن أن يعود المسيح (بل إنه سيعود حتماً).

الانتظار معرفة جديدة، فتحٌ بعد كدٍ وإرهاقٍ وعزلةٍ وجهدٍ مكثّف للفهم، للتواصل مع سقف العالم والطوابق الأخرى التي تعلوه

في الإسلام، قال النبي محّمد: "أفضل العبادة انتظار الفرج" (الترمذي). يمثل هذا المعنى الأساسي للانتظار في الفلسفة الإسلامية السنية، والذي يستبطن الفرج في النهاية، المُتمثل في فرج الكرب، أو انتظار يوم القيامة، والقرب من الله.أما محمد باقر الصدر فيستشهد بشعوب مختلفة تاقت عبر التاريخ لرجعة أبطالها:"الزرادشتيون مثلاً ينتظرون عودة (بهرام شاه)، ومسيحيو الأحباش يترقبون عودة ملكهم (تيودور) كمهديٍّ في آخر الزمان، والهنود ينتظرون عودة (فيشنو)، والمجوس يعتقدون بدوام حياة (أوشيدر)، كذلك نجد أن البوذيين ينتظرون (بوذا)، والإسبان ينتظرون ملكهم (روذريق)، أما المغول فما زالوا يتطلعون إلى عودة قائدهم جنكيزخان". الانتظار متجذّر في لاوعي الشعوب إذاً، وهو اللبنة التالية بعد التعرّف على الدين ونمذجَتِهِ وتجهيزه ليغدو إيديولوجيا خلاصيّة: أعطني ديناً وقومية مهزومة، أعطيك أمة تنتظر مخلّصها.المهدوية المعاصرة تميز من القرآن الكريم عدة معانٍ مختلفة فيما يدعى عقيدة فلسفة الانتظار، والتي تتراوح بين الترقّب والتربُّص والتحسُّس. ففلسفة الانتظار تقسّمه إلى انتظار المفوِّضين، مثل قوم موسى الذين فَوّضوا الأمر له ولربّه، وانتظار المتفرِّج، الذي لا يرمي نفسه بين حوافر الخيول في المعركة، بل يكتفي بالنتائج، والانتظار الصادق، الذي يعرف ما كان وما سيكون. معانٍ مختلفة للانتظار تقوم كلها على النتيجة المعروفة مسبقاً، النتيجة التي تهجس بعودة غائبٍ ما، ليملأ الأرض بشيء ما بعد أن مُلئت شيئاً ما.أما فلسفة العرفان فتقول على لسان حسين أنصاريان أستاذ اللغة العربية في جامعة أصفهان إن فترة إمامة المهدي هي: "فترة بلوغ الإنسان وفترة تطبيق الشريعة الكاملة الحقة، التي لم تتحقق في زمن الأنبياء. لم يبلغ الإنسان بعد، ولم تبلغ الشريعة كذلك، وما يزال علينا في مرحلة ما قبل البلوغ هذه أن ننتظر".ربما لا يختلف الانتظار الفلسفي أو المتعلق بالسرديات الكبرى عن الانتظار الفردي المتعلق بكل شخص منا ينتظر أي شيء كان، من شطيرة الهمبرغر حتى انتظار الأحبة.

مع الومضة الأولى من أنوار جنة عدن
نتداعى إلى البحر،
نقف هناك على شاطئ الحرية
ننتظر الشمس...

وربما لا يفاجئنا أن الرياضيات ونظرية الاحتمالات والإحصاء الرياضي لم تنس مشاغل البشر والمللَ الممض الذي يصيبهم عند الانتظار، فأوجدت لهم نظرية صفوف الانتظار "نظرية الطوابير"، وهي النظرية الرياضية التي وضعها المهندس الدنماركي آي كي إيرلانغ منذ مئة عام بهدف حساب عدد الخطوط والعمال اللازمين لضمان خدمة سلسة. تحيلُنا نظرية الطوابير تلك إلى مدن الملاهي والمطاعم والملاعب والمطارات وكل ما يمكن أن ننتظر فيه للحصول على أي خدمة كانت. النظريةُ التي تتبع الكثير من الحيل لجعل فترة الانتظار ممتعة ومقبولة، كأن نضع مرآة في المصعد كي ننشغل عن الانتظار بالنظر إلى صورتنا (بما يحملهُ نظرُ المرء إلى صورتهِ من معانٍ) لتزجية الوقت.فيلسوف الروك الأعمق جيم موريسون، والمغني الرئيسي في فرقة الروك الخالدة The Doors والذي كتب أغنية Waiting for the Sun، لا يختلف أحد أن الشمس التي يقصدها في الأغنية هي شمس الحرية الآتية من الشرق، من جنة عدن، وتتكرر مفردة الانتظار في هذه الأغنية 23 مرة.تقول الكلمات:

"مع الومضة الأولى من أنوار جنة عدن 

نتداعى إلى البحر 

نقف هناك على شاطئ الحرية

ننتظر الشمس

ننتظر الشمس

ننتظر الشمس…".


رصيف ٢٢


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.