04 Jul
04Jul

بقلم: ألكسندر بيفيلاكوا

منظرو الدرجة الثانية والثالثة هم المفكرون الأجدر، لأنهم القادرون على إظهار النماذج الفكرية والسلوكية النموذجية لعصر ما.

Vol. 45 No. 13 · 29 June 2023 


كتب المؤرخ إيزاك دزرائيلي في كتابه "مصائب الكتّاب  (Calamities of Authors)" (1812): "إن تكريس حياتنا للتأليف لا يشكل الوسيلة الحقيقية لتعزيز سعادتنا أو تحسين ثروتنا" عندما أرّخ لحياة الكتّاب الذين اعتبرهم يومًا الكتاب "الأكثر تكريمًا واحتفاء بأسمائهم والأقل أجرًا". دُفع بعض هؤلاء الأدباء "إلى الجنون بسبب العوز والإهانة"، أما بعضهم الآخر فقد "ماتوا من الإفراط في الدراسة"، أو عانوا من الحزن أو تعرضوا للسخرية العامة. كان أحد هؤلاء الكتاب، سايمون أوكلي، أستاذًا للغة العربية في كامبريدج في أوائل القرن الثامن عشر، والذي انتهى به الأمر في السجن المخصص للمتخلّفين عن أداء الديون، حيث زَعَمَ أنه هناك قد "تمتّع بمزيد من الحرية الحقيقية، وبحياة أكثر رفاهية وسعادة، وراحة أكبر في ستة أشهر ... أكثر بثلاث مرات من ست من السنين السابقة التي عاشها".  

لم يكن تأريخ دزرائيلي الأول من نوعه، فقد وصف بييرو فاليريانو في كتابه   "في سوء عاقبة المتعلمين" (De infelicate Literatorum  ('On the Ill Fortune of Learned Men’، الذي نُشر بعد وفاته في 1620، مصير عدد من معاصريه التعساء: ماتوا بالطاعون أو انتحروا أو شُقَّ جسد بعضهم بالمنشار إلى نصفين، مثل عالم التشريح غابرييل زربي. وفي كتاب "المعرفة المفقودة Knowledge Lost"، الذي نُشر باللغة الألمانية في 2012 وترجم اليوم إلى الإنجليزية، يجادل المؤرخ مارتن مولسو ويدفعنا لإعادة التفكير في أعضاء طبقة Wissensprekariat الأوروبية، أو "الطبقة المثقفة الهشة". فقد أدى توسع الجامعات الألمانية خلال الفترة الحديثة المبكرة إلى فائض من الخريجين، الذين لم يتمكن الكثير منهم من العثور على عمل أكاديمي. فإذا لم يتمكنوا من الحصول على وظيفة مدرس خاص في منزل أحد النبلاء ليصبحوا ("الخدم المثيرون للشفقة لعائلة كبيرة"، على حد تعبير دزرائيلي)، فقد يجدون عملاً كسكرتير خاص، أو كتاب مستقلين أو صحفيين.  

 تشمل أمثلة مولسو الفقيه القانوني ثيودور لودفيج لاو، المولود في كونيغسبيرج في 1670، وهو أستاذ قانون فاشل حاول الانتحار في 1719 بعد أن تعثّرت جهوده لنشر مختارات من الفكر الراديكالي. وخرّب يوهان هاينريش هوبل مسيرته الأكاديمية منذ بدايتها بعد أن عُيِّن أستاذاً للقانون في جامعة كيل Kielفي 1723، واستعدى عليه الجميع على نفسه من خلال محاضرة افتتاحية حارقة هاجم فيها تحذلق الفقهاء القانونيين. قال هوبل لأصحاب "التعليم المزيف" والفكر "المنحرف" في الجمهور: "انطلقوا! اخرجوا من هنا!' فأعفي من واجباته في العام التالي ولم يجد أمامه بدًا من العمل كمدرس خاص لأبناء أمير أسقف لوبيك، ومن بينهم ملك السويد المستقبلي. ولكنه واصل عمله الخاص، حيث قام بتجميع قوائم بالكتب المحروقة (أو الكتب التي تعرض مؤلفوها للحرق)، والتي كان ينوي نشرها جميعًا تحت عنوان "مكتبة فولكانوس (إله النار والبراكين في الأساطير الرومانية)". 

ازدهرت الأبحاث الخاصة بالعناصر الفكرية المساعدة في السنوات الأخيرة، فلم يعد المترجمون التحريريون والمترجمون الفوريون والمساعدون في المكاتب والناسخون يعتبرون وسطاء، بل تحولوا إلى مؤلفين مساهمين بذاتهم. 

ولكن مولسو وعلى الرغم من مفرداته الماركسية (حيث يستخدم عبارات "البرجوازية الفكرية" بالإضافة إلى "الطبقة المثقفة")، لم يكن مهتمًا بالهشاشة المالية لهؤلاء الكتّاب بقدر اهتمامه بالتفكير المحفوف بالمخاطر. كما يجادل بأن الأساتذة الجامعيين قد يشعرون بعدم الاستقرار إذا شاركوا في نشاط فكري سري. كان أحد الذين تحدث عنهم هو هيرمان صموئيل ريماروس الباحث من القرن الثامن عشر، ومدير مدرسة إعدادية مرموقة في هامبورغ، والذي وضع "قدمًا في الفكر المحفوف بالمخاطر" لأنه كتب سراً نقدًا ملعونًا للوحي المسيحي، لم يُنشر إلا بعد وفاته. 

العنوان الألماني لكتاب مولسو، Prekäres Wissen، يمكن ترجمته حرفيًا على أنه "المعرفة المحفوفة بالمخاطر"، والمعرفة هنا مهددة بقدر منتجيها. فعلى حد تعبير مولسو، "كيف يمكن للمرء أن يضمن وصول رسالة أو خطاب أو حزمة سرية بالفعل إلى المستلم المقصود؟ كيف يمكن لرسالة معينة تجاوز الرقابة لقارئ محتمل؟ كيف يمكن للمرء أن يتأكد من أن الشرطة لم تصادر وتتلف النسخة المطبوعة بالكامل من كتاب ما؟ 

أراد مولسو استعادة المفكرين المنسيين. فكتب في البداية أن "منظري الدرجة الثانية والثالثة" هم المفكرون "الأجدر"، لأنهم القادرون على "إظهار النماذج الفكرية والسلوكية النموذجية لعصر ما". لذلك فإن تجارب العلماء الذين لم يصبحوا نجومًا أكاديميين، وفقًا لهذا المنطق، أكثر تمثيلا من تجارب ديكارت أو لايبنتز، على سبيل المثال. لكن مولسو ركّز اهتمامًا أكبر على ما يمكن أن يكشفه لنا المثقفون الهامشيون: فهم غالبًا ما يتخذون مواقف أكثر راديكالية من أقرانهم الراسخين، لأنهم ليس لديهم ما يخسرونه مثل أولئك.

 ساعدت أعمال مولسو المبكرة في إظهار أن عصر التنوير لم يظهر في معارضة الثقافة الفكرية المسيحية وحسب، بل منها أيضًا. ففي العقود الأخيرة، جادل المؤرخون بأن عدم الإيمان نشأ من مجموعة غير متجانسة من المصادر: إعادة اكتشاف فلسفة التشكيك القديمة، الدراسات الكتابية سمحت بتأريخ الوحي المسيحي لأول مرة؛ وتنامي الكراهية في بعض الأوساط تجاه اللاهوت المستخدم لتبرير الحكم الملكي.

 أظهر كتاب مولسو "Enlightenment Underground " الذي صدر عام (2002) طريقة التي تطور بها الأدب الألماني الراديكالي في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر من خلال شبكات سرية وصلت إلى أجزاء أخرى من أوروبا. 

وأكثر ما أثار اهتمام مولسو هو الطريقة التي تزدهر بها المعرفة في الظروف التي تتسم بالسرية. يكرس مولسو قسمًا كبيرًا من كتاب المعرفة المفقودة Knowledge Lostلإعادة بناء الأساليب التي استخدمها العلماء لإخفاء معتقداتهم. فقد كان الإنكار المقبول سياسة الإنكار أحد الأساليب الأكثر شيوعًا، لأن التعبير عن الآراء انطوى على المخاطرة بلفت انتباه رقباء الدولة، لذلك كان الأكثر أمانًا الإدلاء ببيانات عبارة عن "نصف مزحات". ففي 1712، حاول بيتر فريدريش آرب، الباحث من مدينة كيلKiel، تبرئة الكاتب الإيطالي الراديكالي جوليو سيزار فانيني، الذي أُعدم في 1619 بتهمة الإلحاد والتجديف. فقد بدا أن آرب يبرر الإلحاد من خلال الكتابة عنه، لذلك يواري في دفاعه عن فانيني مشاعره الخاصة حول هذا الموضوع تحت ما يسميه مولسو "قطار ملاهي" من الحجج المتضاربة.

 لم يكن على أعضاء الطبقة المثقفة القلق بشأن عملهم فقط. فقد ينجذبون إلى الجدل حول ما يكتبه أصدقاؤهم المقربون وأقاربهم. اختار البعض الصراحة: فقد أشار أستاذ القانون نيكولاس غوندلينغ إلى "جده الذي يتبع طائفة السوسينيين (الموحدين)" (شكك السوسينيون في عقيدة الثالوث) قبل تستخدم صلة القرابة هذه ضده. 

وعلى النقيض من ذلك، أخفى كبير قساوسة هامبورغ، أبراهام هينكلمان، حقيقة أن جده كان من أتباع الصوفي يعقوب بوهمه وصديقه المقرب. توصل هينكلمان إلى الاعتقاد (خطأ) أن جده كتب الكثير من أعمال بوهمه، ولكن على الرغم من نشره نقدًا دقيقًا لتعاليم بوهمه، فقد أبقى تاريخ عائلته سراً. ولكنه مع ذلك وجد نفسه عالقًا في نقاشات حول التقويّةPietism، وهي حركة إصلاح لوثرية استلهمت من بوهمه، وعانى من حالات النزيف، التي عزيت إلى التوتر الذي عاشه ليتوفى في 1695 عن عمر يناهز 43 عامًا. 

يوضح مولسو بعض الطرق التي قوضت بها الظروف المادية السعي وراء المعرفة ونقلها. لنتأمل فقط في مخاطر إرسال المخطوطات بالبريد. في 1734، ضلت مجموعة من المقتطفات المكتوبة بخط اليد عن تاريخ الفلسفة طريقها في لايبزيغ. لقد أعارها أحد العلماء، وهو كريستوف أوجست هيومان، إلى عالم آخر وهو يوهان جاكوب بروكر. يُذكر بروكر على أنه مؤلف تاريخ هائل للفلسفة والذي يعد من وجهة نظر مولسو، "الأكبر والأكثر أهمية" الذي ظهر في القرن الثامن عشر. لم يكن لكتاب بروكر ليُكتب أبدًا بدون ملاحظات هيومان، فمدينة كاوفبورينKaufbeuren، المدينة البافارية الصغيرة التي عاش فيها بروكر، لم يكن فيها مكتبة كافية لإتمام مثل هذا العمل. ولكن ضياع هذه الملاحظات دمر صداقة الرجلين وجعلت من المستحيل على هيومان كتابة تاريخه النقدي الهام للفلسفة. 

يتطلب الأمر قدرًا كبيرًا من الصبر والخيال لإعادة بناء المسار الوظيفي للعلماء المنسيين، ناهيك عن محاولة استعادة أفكارهم الخاصة. يوسع مولسو محاولته ليصل حتى للمثقفين الذين قرروا تدمير عملهم. يكتب مولسو عن أتباع هربوقراطيس Harpocrates، إله الصمت قائلًا: "قد يكون من الصعب للغاية العثور على أي شيء يخصهم". تراجع هؤلاء الرجال أو أجبروا على الامتناع عن الدراسة والنشر. ربما كان ذلك لاقتناعهم بأن الضرورة فضيلة هنا، جادلوا بأن الحقيقة هي امتياز للقلة، يمكن مشاركتها فقط مع أقرب الأتباع والمريدين أو عدم مشاركتها على الإطلاق. لكن الأسرار الهربوقراطيسية لم تكن بالضرورة هرمسية أو صوفية. وفي أوائل القرن الثامن عشر، سعى أستاذ اللغات الشرقية هيرمان فون دير هاردت إلى شرح الكتاب المقدس وإزالة الغموض عنه وتفسيره بمصطلحات علمانية بحتة. وبسبب هذا مُنع في البداية من إلقاء محاضرات حول تفسير الكتاب المقدس وأجبر في النهاية على التقاعد تمامًا. 

أين يتركنا كل هذا؟ يقدم مولسو دليلًا في المقدمة عندما كتب أن "التاريخ الفكري قد أصبح بدرجة كبيرة تاريخًا ثقافيًا للممارسات الفكرية". قد يرحب أولئك الذين عملوا في هذا الموضوع لعقود بهذا التطور، لكن الأمر يستحق التفكير فيما كان عليه أن يترك وراءه. فلا تختفي الأسئلة الكبيرة لمجرد أن العلماء يفقدون الاهتمام بها. أحد أسباب الاهتمام بالمفكرين من الدرجة الثانية والثالثة في كتاب المعرفة المفقودة هو أهميتها للأصول الفكرية للشك الديني. ومع ذلك، لا يفحص مولسو الطرق التي ساهمت بها كتابة وتداول الأدب السري في التطرف. وكتب أن هذه الاعتبارات تنتمي إلى "التاريخ اليميني"، حيث يتم تقديم "فلاسفة التنوير الراديكاليين" على أنهم "رواد الحداثة الأبطال" (وهذا بالتأكيد تلميح لجوناثان إسرائيل، الذي يرى التنوير على أنه معركة المتطرفين البطوليين ضد المحافظين والمعتدلين). 

بالنسبة لمولسو، فإن "الخط الفاصل بين بريكاريا المعرفة وبرجوازية المعرفة" هو إطار تحليل أفضل من تقسيم إسرائيل لمفكري التنوير إلى معتدلين وراديكاليين. كانت مشكلة "هشاشة وضع المرء" "أكثر إلحاحًا بكثير من أي إخلاص لفلسفة معينة قد نسميها "راديكالية". من المؤكد أن تنظيم المثقفين وفقًا للاعتقاد السياسي يختزل الحياة الفكرية إلى شكل من أشكال السياسة. كما تفترض أيضًا أن الأفكار الميتافيزيقية والسياسية تكمل بعضها البعض بدقة عندما، كما يوضح مولسو، يمكن أن تصل إلى مرحلة تبادلات permutations مفاجئة. يؤكد كتاب "المعرفة المفقودة" أن المعتدلين والمتطرفين ينتمون إلى طيف كبير مختلف. قد يتفقون على أشياء كثيرة؛ لقد سمح لهم نوع من الغموض المنتج بالتوافق والتعاون. 

ومع ذلك نواجه مشكلة تحيز الاختيار في محاولة للاستقراء من أمثلة مولسو. فهو يجادل بأن كون العلماء في وضع مهني هش جعلهم أكثر عرضة للتعبير عن مواقف غير تقليدية. لكن هذا لا ينطبق بالضرورة على الباحثين الألمان في القرن الثامن عشر على نطاق أوسع، ناهيك عن العلماء غير المستقرين بشكل عام. ما يُظهره الكتاب، بالأحرى، هو أن هناك أوجه تشابه مذهلة بين الطرق التي تعامل بها العلماء الذين تحدث عنهم مولسو مع المعرفة المثيرة للجدل، سواء كانت إلحادية أو سحرية أو صوفية أو أي شيء آخر. 

وبدلاً من السؤال عن كيفية نشوء التنوير من ثقافة فكرية محافظة وهرمية، أو متابعة تاريخ اجتماعي من المؤسسين الأدبيين، أنتج مولسو "تاريخه الثقافي للممارسات الفكرية". ويقترح مولسو في الخلاصة أن هذا النوع من التاريخ ليس معاديًا لجميع السرديات الكبرى، بل معاد فقط للفكرة التقليدية للتنوير باعتباره انتقالًا إلى الحداثة. ويجادل مولسو بأن كتاب "المعرفة المفقودة" عبارة عن مساهمة في تاريخ الحرية - حرية التفكير والنشر والكتابة باسم المرء - وتاريخ الشعور بالأمان: القدرة على تخزين المعلومات بأمان وحمايتها من مراقبة الدولة. 

كل الأسئلة الكبرى تستحق المناقشة. ولكن القارئ يبقى في بعض الأحيان راغبًا في معرفة المزيد عن مصير المثقفين المحفوفين بالمخاطر. لجأ "لاو" بعد محاولته الانتحار إلى الكتابة في الأمور المالية، ربما على أمل إقناع الأمراء الألمان بدعم حرية الدين على أسس اقتصادية. استمر "لاو" في التذمر من فشل كتاباته المتطرفة، التي نشرها دون الكشف عن هويته: "لقد كنت أعزف موسيقى جميلة وعالية بما يكفي، ولكنهم لم يرغبوا بالرقص". 

 في 1737 كلف "لاو" رسامًا برسم لوحة تشبهه فيها رجل نبيل يرتدي درعًا ويحمل سيفًا. ويظهر النقش - وهو صورة نادرة لمفكر ألماني راديكالي من تلك الفترة - محاطًا بسبعة شعارات تمثل جوانب مختلفة من فكره. وعندما منعه حاكم فون دير هاردت، دوق براونشفايغ-فولفنبوتل، من نشر المزيد من أبحاثه الكتابية العقلانية، أحرق مخطوطاته وقدم رمادها إلى الدوق.

 أما بالنسبة لهيوبل، مؤرخ حرق الكتب، فلم يشغل قط منصبًا أكاديميًا آخر ولم يكمل "مكتبة فولكانوس". ولكنه ترجم بناءً على طلب من رعاته النبلاء ثلاثة مجلدات لتاريخ تشارلز الثاني عشر ملك السويد. وعُيّنَ آرب، مثل هيوبل، في منصب أستاذ في كيل Kiel، ثم أقيل، ليحصل لاحقًا على منصب دبلوماسي في بلاط براونشفايغ ولفنبوتل، والذي خسره أيضًا كالعادة.



"المعرفة المفقودة: نظرة جديدة للتاريخ الفكري الحديث المبكر" لمارتن مولسو، ترجمة: إتش سي. إريك ميدلفورت، برينستون، 434 صفحة.

Knowledge Lost: A New View of Early Modern Intellectual History
by Martin Mulsow, translated by H.C. Erik Midelfort.
Princeton, 434 pp., £35, January, 978 0 691 20865 7

 المصدر: لندن ريفيو أوف بوكس

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.