نُشرت المقالة أمس (٩/٨/٢٠١٧) كمادة رئيسية في موقع مجلة «سايت & ساوند» البريطانية، كتبتها شارلوت بانك
"ليس هناك سينما سورية بل هناك مخرجون سينمائيون سوريون وحسب". يعبر هذا الرأي، الذي غالباً ما يصدر عن صناع السينما السورية أنفسهم، عن ترددهم البالغ في النظر إلى فنهم كمشروع وطني، وعن تلك العلاقة التي غالباً ما تكون علاقة صراع بين المخرجين الأفراد ومؤسسات الدولة التي تمكنهم من إنتاج وتوزيع الأفلام في البلاد.
لطالما كانت الدولة، وخلال الأعوام الخمسة والثلاثين الأولى من حكم حزب البعث، تمارس ما يمثل شبه احتكار على إنتاج وتوزيع الأفلام من خلال هيئة مركزية تشرف على جميع الشؤون المتعلقة بالسينما، المؤسسة العامة للسينما. أنشئت هذه المؤسسة في عام 1964 كفرع من وزارة الثقافة، ومنحت المؤسسة العامة للسينما المخرجين المحترفين الذين تلقوا تدريبهم في الخارج (لم يتم على الإطلاق تأسيس أي كلية لتدريس فن السينما في سوريا) فرصة ليصبحوا أعضاء فيها وليتقدموا بطلبات للحصول على تمويل لمشاريعهم. كانت المؤسسة العامة للسينما تقرر اسم مخرج الفيلم وتقرر ماهية المحتوى المقبول، وتشرف على الرقابة خلال جميع مراحل الإنتاج. تمتعت المؤسسة العامة للسينما في البدايات بدرجة عالية من الاستقلالية وأنتجت أفلاماً مبتكرة وعالية الجودة للمخرجين السوريين والعرب. وصف مخرج الأفلام الوثائقية السوري عمر أميرالاي (1944-2011) هذه الفترة بـ"العصر الذهبي".
تراجعت فترة الرعاية الفنية هذه في نهاية المطاف عندما بدأ النظام يطالب بأن ينسجم المخرجون مع الأيديولوجية الرسمية. ولكن المخرجين السوريين نجحوا رغم ذلك في إنتاج أفلام ذات جودة فنية عالية وكثيراً ما كانت أفلاماً هامة للغاية. وكما هو الحال في الدول الاستبدادية الأخرى التي تتمتع بقيود شديدة على حرية التعبير، فقد أعاد هؤلاء المخرجون صياغة عملهم وفقاً للظروف واستخدموا مجازات وتوريات متقنة ليتمكنوا من معالجة القضايا الحساسة.
وهكذا اختار محمد ملص (من مواليد 1945) فترة تاريخية أخرى بعيدة عن الحاضر لشجب تلك الأفكار السطحية عن الأمة ومشروع القومية العربية في أفلامه الروائية الطويلة "أحلام المدينة" (1983) وفيلم "الليل" (1992). كما اختار المخرج أسامة محمد (من مواليد 1954) مجاز الأسرة لدراسة كيفية تدمير العلاقات الإنسانية من خلال التسلسلات الهرمية للسلطة في فيلمه "نجوم النهار" (1988). كما يصل الأمر بملص إلى اقتراح التعامل مع القيود التي تفرضها الرقابة واستخدامها كأداة وتحويلها ضد النظام: "الرقابة عبارة عن هدية بالفعل لأنها تجبر المرء على البحث عن هياكل جديدة أكثر إثارة ليتكلم من خلالها".
أما حقيقة أن القواعد التي تحدد المسموح والمحظور لم تكن مرنة على الإطلاق، فقد أجبرت الفنانين على أن يعيشوا قسراً في جو مستمر من انعدام اليقين. ومع ذلك أصبح المخرجون السوريون قادرين على إيجاد طرق للتعبير عن النقد أو حتى "قول الحقيقة في وجه السلطة"، وكما وصف إدوارد سعيد دور المثقفين فإنهم يقومون: "بتمثيل الأشخاص والقضايا التي عادة ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل والإخفاء". وقد اختار أحد المخرجين على كل حال الحياة في المنفى بعد أن تم حظر بعض أفلامه الهامة في السبعينيات: عاد عمر أميرالاي إلى فرنسا حيث درس واستمر في العمل هناك.
بدايات جديدة: سينما مستقلة بعد عام 2000
عندما توفي الرئيس حافظ الأسد في حزيران 2000، كان كثير من الناس، من السوريين ومن غير السوريين، يأملون في أن ابنه وخلفه بشار سيقود البلاد نحو مستقبل حر وديمقراطي. وقد ظهر التعبير عن هذه التطلعات في حركة ربيع دمشق القصيرة الأمد التي شهدت إنشاء صالونات سياسية في منازل خاصة ومناقشات حية حول مستقبل سوريا كمجتمع حر.
ولكن سرعان ما سحقت هذه الحركة، وسجن عدد كبير من الناشطين أو أجبروا على التزام الصمت. ولكن الفنانين والمخرجين رفضوا التخلي عن دعوتهم للحرية. كان هناك شوق كبير وخصوصاً بين جيل الشباب للسينما التي تتعامل مباشرة مع المجتمع السوري وتتناول مخاوفه، مع رغبة قوية في الدفع نحو لغة أكثر مباشرة وأقل مداورة. بدأ صانعو الأفلام ومخرجو أفلام الفيديو وبفضل الإمكانيات المتزايدة للوصول إلى تقنية الفيديو الرقمية بالعمل بشكل مستقل عن المؤسسة العامة للسينما.
أصبح أميرالاي شخصية رائدة وملهمة بموقفه الثابت من نظام البعث، ونهجه المبتكر في صناعة الأفلام الوثائقية، وإيمانه الراسخ بقوة الأفلام الوثائقية. كما أظهرت أعماله أيضاً شكوكاً قوية تجاه الحقائق المبتذلة وأظهرت في كثير من الأحيان إحساساً مريراً بالسخرية. درس في فيلمه "طوفان في بلاد البعث" (2003) آثار الجهاز الأيديولوجي للبعث على المجتمع وأظهر كيف كان يتم زرع المواءمة مع الأيديولوجية الرسمية من خلال المدارس والهياكل الحزبية.
ظهر تأثير عمر أميرالاي وأفكاره على العديد من الأفلام الوثائقية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. يصور فيلم "زبد" (2008) عائلة سورية لا سيما من وجهة نظر أحد أفرادها المريضين عقلياً. وبينما نتابع الحياة اليومية للأسرة، تظهر على السطح ببطء تلك التفاصيل الخبيثة الآتية من الماضي: فقد كان الزوج والزوجة الشيوعان سجينين سياسيين سابقين. تقلق ذكريات اعتقالهم وسجنهم وتعذيبهم وخيبة أملهم هدوء حياتهم ويبدو أن حلمهم بمغادرة سوريا لبدء حياة جديدة في أماكن أخرى قد أصبح أمراً معقداً للغاية بسبب مخاوفهم المتعلقة بشقيق الزوجة الذي يتطلب رعاية مستمرة بسبب مرضه العقلي. ما من حل حقيقي لهذه المعضلة. وذلك لأن الزوجين يشعران بالاختناق في سوريا، متأثرين بالذكريات والمناخ السياسي الخانق، ولكنهما لا يتمكنان من تركها.
النشطاء وحالة اليأس وخيبة الأمل: صناعة الأفلام بعد عام 2011
ومع بداية الانتفاضة السورية في آذار 2011، خضعت صناعة الأفلام وجميع أشكال التعبير الفني الأخرى لتغييرات عميقة. بدأ المزيد والمزيد من الأعمال الفنية في مجموعة متنوعة من وسائل الإعلام مع أواخر صيف عام 2011 بالظهور على الانترنت، مع بروز أهمية كبيرة خاصة للفيديو كأداة فعالة في النشاط السياسي، وسادت جماليات ناشطي الفيديو أو ما أصبح يطلق عليهم "المواطنون الصحفيون"، بلقطاتهم المرتعشة والتي غالباً ما كانت سريعة وغير واضحة في معظمها. ومن بين الأعمال العديدة التي أنتجت خلال الحرب الأهلية، كان الكثيرون مدفوعين بالرغبة في توثيق لحظة أو موقف معين أكثر من اهتمامهم باللحظة الجمالية، وأصبح يطلق على نتاجاتهم اسم "سينما الطوارئ".
ولكن العديد من الأعمال تمثل أيضاً سجلات للحظة معينة في الحرب، وبرزت هذه الأفلام وأخذت موقعها بالفعل على هذا النحو. يتتبع فيلم "بلدنا الرهيب" لمحمد علي أتاسي وزياد حمصي (2014) المفكر والكاتب البارز ياسين الحاج صالح في رحلته من منطقة الغوطة "المحررة" (والمدمرة والفارغة من السكان) شرقي دمشق إلى مدينة طفولته في الرقة متجهاً بعدها إلى تركيا. وتترافق الرحلة الجسدية مع تأمل داخلي وعقلي حول معنى الثورة والحرية والعلاقات الإنسانية في حالات المنفى والانفصال.
ويبرز هذا الجانب الشخصي التأملي في أفضل حالاته في هذه الأفلام، كما يبرز أيضاً في عدد من أشرطة الفيديو التي حققها العديد من الفنانين العاملين في الفنون البصرية. يربط فيلم "دوار الشمس" (2011) بين القصة الحميمة لولادة ابنة الفنان والاحتجاجات في العالم العربي، وتعذيب وقتل صبي يبلغ من العمر 13 عاماً، اسمه حمزة الخطيب. يعد جسد الإنسان المحور الرئيس في هذا العمل، سواء من حيث الجوانب التي تمنحه الحياة أو من حيث ضعفه.
يقدم الفيلم التالي للبيك "سوريا الحلوة" (2015)، سوريا كبيئة ومحيط سريالي يقع في مكان ما بين السيرك والكابوس. ومن خلال وضع الصور المدمجة والمعاد تشكيلها بجانب بعضها البعض من فيلم وثائقي للمؤرخ السينمائي أدريانو أبرا بعنوان "سيرك فليني"، مع لقطات من يوتيوب تظهر الأعمال الحربية لجنود الجيش السوري والمتمردين، يتوفر لدينا مشهد متغير ومختلف الألوان من الرعب والسخط مع صور للأسد الذي يهاجم مدربه خلال إحدى فقرات الأداء في السيرك (في إشارة واضحة إلى بشار الأسد، ومعنى كلمة الأسد في اللغة العربية)، مع صوت رائد الفضاء السوري الأول والوحيد محمد فارس. وبينما يتحدث فارس عن جمال وطنه كما يراه من الكبسولة الفضائية، نرى صور الدمار في سوريا المعاصرة.
وفي الوقت الذي نجد فيه البيك منفتحاً للغاية في نقده للنظام السوري بوصفه مرتكباً للجرائم ضد مواطنيه، يعكس فيلم رندا مداح، بعنوان "أفق خفيف" (2012)، قدرة الإنسان على الصمود ويربط بينها وبين فقدان أجيال عديدة لبعضها البعض. وفيما يمكن أن يعد عادة وضعاً عادياً تماماً، تقوم امرأة شابة بتنظيف وترتيب منزلها، في حالة عبثية وسريالية: المنزل مدمر وجدرانه مليئة بثقوب الرصاصات، والنوافذ ليس عليها أي زجاج.
تحدث مشاهد مثل هذا المشهد في جميع أنحاء سوريا حيث يحاول الناس خلق منازل لهم من خلال القليل المتبقي في أيديهم. ولكن المنزل في فيلم مداح موجود في الجولان. وكان الصراع وحالة الحرب مع إسرائيل قد سمحا للدولة السلطوية السورية بإبقاء البلد تحت نير قانون الطوارئ، وخلال ذلك قمعت معظم أنشطة المجتمع المدني. ومن خلال الربط ما بين الكارثتين السوريتين، احتلال الجولان والحرب الحالية، توجه مداح انتباه المتفرجين إلى عجز النظام التام عن تلبية احتياجات البلاد وشعبها. وفي إحدى الصور الأخيرة في الفيلم، تضع الشابة عملاً مزخرفاً على الطاولة، كفعل مقاومة في تلك الأرض الجريحة.
ومع تزايد حدة العنف، أصبحت مسألة السلامة والأمان أكثر إلحاحاً بالنسبة للسوريين. یعرض فيلم "مسكون" للواء یازجي (2014) قصص الأشخاص الذین غادروا سوریا بالفعل للبحث عن ملجأ آخر أو الذين يفكرون في القيام بذلك. فالسؤال الذي يحوم في ذهن الجميع، "متى نقرر المغادرة؟" توقفت حياة أبطال الفيلم تماماً، فقد كانوا مستعدين للمغادرة أي لحظة، وحتى أولئك الذين فروا من القصف المستمر يبدون وكأنهم لا يزالون في سوريا ولو ذهنياً. ذلك الشيء الذي يسكنهم لم يكن شيئاً خارقاً على الإطلاق، بل الواقع نفسه، الواقع الذي أصبح لا يطاق بالفعل.
يربط آفو كابرئليان في فيلمه "منازل بلا أبواب" (2016) مسألة النزوح والنفي بذكريات جماعية عن نزوح قسري آخر، تلك الإبادة الجماعية للأرمن. نجا أسلاف كابرئليان من هذه الإبادة واستقروا في حلب، ليشكلوا أغلبية في منطقة الميدان في تلك المدينة. يربط الفيلم ما بين شذرات من الحياة في الشارع تحت النوافذ، ومواكب الزفاف والمواكب الجنائزية، ولقاءات الناس ولعب الأطفال، وما بين قصص عائلية تدور حول النزوح والانتماء.
صُوّر الفيلم في جو مختلف، حيث تم تصويره بالكامل داخل شقق مختلفة، وكان معظم الفيلم يدور في شقة والدي المخرج. وبينما يتصاعد قلق الوالد من أن هاجس ابنه المتزايد في تصوير الفيلم قد يضع الأسرة بأكملها في خطر، تواجه والدة كابرئليان الكاميرا كصديق حميم يمكن ائتمانه على الأسرار. يسود في الفيلم إحساس بالملل والانتظار، ولكنه يعكس أيضاً شعوراً بنذر الخطر، والاستعداد للمغادرة مرة أخرى.
تقرر العائلة المغادرة في النهاية، ويكرس المخرج خاتمة الفيلم لحياتهم الجديدة في بيروت. وتعطى الكلمات الأخيرة في الفيلم لوالدة كابرئليان وروايتها لحلمها الذي كان فيه باب منزل الأسرة مختفياً وراء الحجارة والطوب، وهو ما يمثل بالنسبة إليها علامة على أنها لن تعود أبداً إلى حلب. أهدى كابرئليان فيلمه إلى سوغومون تهليريان، الرجل الذي أطلق النار في عام 1921على طلعت باشا، أحد العقول المدبرة للإبادة الجماعية للأرمن. ربما يكون هذا تعبيراً عن الأمل في أن البؤس الذي حل على السوريين في القرن الواحد والعشرين سيتم الانتقام له ربما في مرحلة ما في المستقبل.
كانت رغبة المخرجين السوريين في التعامل مع الواقع المعيشي اليومي لبلدهم محفوفة بالمعضلات والإشكاليات منذ بداية الإنتاج السينمائي الجدي في البلاد. وكثيراً ما كانت تتطلب الرغبة في معالجة المسائل الحساسة النظر بعناية في الوسائل التي يتكلمون من خلالها. ولكن منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حاول صناع الأفلام وشرائط الفيديو الشباب إيجاد لغة أكثر مباشرة، حتى عند التعامل مع مواضيع سياسية حساسة. ويبدو أن هؤلاء الشباب قد وجدوا هذه اللغة البصرية منذ بداية الانتفاضة الحالية التي تحولت إلى حرب. تزامن هذا للأسف مع الدمار واسع النطاق للبلد واضطرار الكثير من الفنانين والمخرجين إلى العيش في المنفى، تماماً كما اضطر العديد من السوريين العاديين إلى ذلك.